كان المذهب الحنبليُّ هو المذهب السائد بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد -رحمه الله- في محنة خلق القرآن، وهذا الصمود أعلى من شأن الحنابلة ورفع قدرهم في أعين الناس والعامة، وأقبلوا على تعلُّم العلم وفقًا للمذهب الحنبليِّ، حتى أصبح الحنابلةُ أغلبيَّةً بأرض العراق، وكان رأسُ الحنابلة بالعراق الإمامَ أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود صاحب السُّنن، وكانت بينه وبين الإمام ابن جرير الطبري مشاحناتٌ وخلافات، وكلاهما لا يُنصف الآخر، ووقع بينهما ما يقع بين الأقران في كلِّ عصر ومكان، ولو وقف الخلافُ بين الرجلين عند هذا الحدِّ لكان الأمر هيِّنًا يسيرًا، لتوافر أمثال هذه الخلافات في كل عصر، ولكن هذا الخلاف قد أخذ منحنىً جديدًا حتى تحوَّل إلى محنةٍ كبيرة للإمام ابن جرير الطَّبريِّ.
ذلك أنَّ الحنابلة حزبَ أبي بكر بن أبي داود قد دفعهم التعصبُ المذهبيُّ المقيت لأن يُشنِّعوا على ابن جرير ويُشيعوا عليه الأكاذيب والأباطيل التي هو منها براء، بل هو مِن أبعد الناس عمَّا اتهموه به؛ ذلك أن الحنابلة قد أشاعوا على الإمام الطَّبري أنَّه من الروافض، ورمَوه بالتَّشيُّع والإماميَّة، وشغبوا عليه بشدة، وصدَّقهم كثيرٌ ممَّن لا عقول لهم إلا في آذانهم، وكان اهمَّ سببٍ لرواج وانتشار هذه الشَّناعات تصحيحه لحديث "غدير خم".
فقد جَمْعُ ابن جرير الطبري لطرق حديث “غدير خم”، وذلك في أربعةِ أجزاءٍ باهرة تدل على سعة علمه ومرويَّاته، وهو الحديث الشهير: “من كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاهُ” وهو الحديث العُمدة عند جميعِ طوائف الشِّيعة، الَّذين يستدلون به على أحقِّيَّة عليِّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وبنيه في الخلافة، وهو حديث صحيح لا شكَّ فيه، ولكن لا دلالةَ فيه على أحقِّيَّة عليٍّ -رضي الله عنه- في الخلافة، وتأويله يختلف بالكلية عما ذهب إليه الروافض الجهلة، وكان السبب وراء جمع ابن جرير لطرق هذا الحديث؛ هو قيامُ أبي بكر بن أبي داود وغيره من علماء الحنابلة بتضعيف هذا الحديث، ومن باب الأمانة العلميَّة وليس من باب الميل للتَّشيُّع أو التأثر به قام الإمام الطبري بجمع طرق الحديث، وقد أقرَّ أبو بكر بن أبي داود بعد ذلك بصحَّة حديث الغدير.
صارت فصول المحنة تشتد، وتضيق حلقاتها على الإمام الطبري؛ فبعد هجمة شرسة من الشائعات الشنيعة والأباطيل والأكاذيب بحقِّ هذا العالم الجليل، قام الحنابلة بالتشويش على الطبريِّ في مجالسه، وتنفير الطلبة من مجالسه، ومع ذلك ظلَّ الإمام صابرًا محتسبًا مواظبًا على الدرس لا ينقطع عنه، حتى قام الحنابلة ذات يوم بسبه وشتمه أثناء الدرس، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس ومنعوه من الجلوس للتدريس، وألزموه القعود في بيته.
نقل الطبري دروسه إلى بيته فكان يجتمع مع طلبة العلم في بيته، فأغاظ ذلك الأمر الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المذهبي المذموم لأبعد دركات الغلوِّ والظلم، حيث قاموا بمحاصرة بيت الطبري ومنعوه من الخروج من بيته، ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إنَّ كلَّ طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد سنة 309هـ لم يجتمعوا به ولم يروُوا عنه شيئًا بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن عليٍّ دخل بغداد ولم يكتب شيئًا عن الطَّبريِّ، وعندما علم أستاذُه ابن خزيمة ذلك قال لتلميذه حسنيك: “ليتك لم تكتب عن كلِّ من كتبت عنهم، وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلتِ الحنابلة بحقه”.
ظلَّ الطبري حبيسًا في بيته يُعاني من الاضطهاد الشَّديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصَّته، وكان قد جاوز الخامسة والثَّمانين وأنهكته السنون، ورحلاتُ طلب العلم في شتَّى بقاع الأرض، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردُّهم شيء، لا مكانةٌ علميَّةٌ ولا كِبَرُ سنٍّ، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظل الجهلة محاصِرين لبيت الطبريِّ حتى حان وقتُ الرَّحيل في شوال سنة 309هـ، وقد ظلَّ الطبري يردد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الحياة.
وبلغت المحنةُ أوجها ووصل التعصب إلى ذروته، وظلَّ الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحابَ الطبريِّ لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج الطبري من حصاره حتى بعد موته، ولكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن يأتوا إلى بيته للصَّلاة عليه حتى إنَّ الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً ونهارًا.
رحل الطبريُّ عن دنيانا الفانية محاصرًا مظلومًا مضطهدًا من الجهلة والمتعصبين، وراح ضحية محنةٍ مقيتة، وإن كان خصومه قد نالوا من دنياه، فإنه ولا شك قد نال من آخرتهم، وقد رفع الله عز وجل ذكره بين الناس وقام له سوق الثناء والفضل والدعاء ولم ينفضَّ، في حين باء الجهلة والمتعصبون بالخسران والنكران في الدنيا والآخرة.