الأخبار - ثقافة و فن - إيزابيل إبرهارد.. فتنة الشرق
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/ADBDE786-6451-463B-BCB1-7A902384C278.htm
أنطوان جوكي-باريس
رغم الأبحاث العديدة، التي وُضعت حول الكاتبة والمغامِرة الفرنسية من أصلٍ روسي إيزابيل إبرهارد (١٨٧٧-١٩٠٤)، لا يزال الغموض يلفّ جوانب كثيرة من حياة وشخصية هذه المرأة الفريدة التي فضّلت الشرق بصحاريه وأهله وروحانيته على الغرب بحداثته وتقدّمه ومجتمعه البورجوازي.
وربما لأن كتابات إبرهارد تبقى أفضل مرجع للتعرف مليا عليها، أقدمت دار “فرنسوا بوران” الفرنسية حديثاً على جمع وإصدار جميع النصوص والملاحظات التي كتبتها أثناء تنقّلها في المغرب والجزائر وتونس. ولدت إبرهارد ونشأت في مدينة جنيف داخل عائلة روسية ثرية ذات ميول تحرّرية، وتوفّيت في مدينة عين الصفراء الجزائرية في حالة زهد كامل. ومع أنها امرأة في السجل العدلي، لكنها حفرت أسطورتها بثياب فارسٍ عربي وبغبار الطرقات التي جابتها في الصحراء. أصول إبرهارد السلافية تفسّر نزعتها إلى الترحال وإلى القدرية، وإطّلاعها الباكر على روايات بيار لوتي ولوحات أوجين فرومونتان يفسّر حلمها منذ صغرها بذلك الشرق الأسطوري، لكن عطشها إلى الهروب من عالمها يعكس أيضاً جرجاً خفياً أو ألماً وجودياً عميقا.
فقصة عائلتها تعجّ بألف سرّ وسرّ، وعن والدها لم تعرف أي شيء، كما لم تعرف من وطنها سوى لغته وما تقوله روايات تولستوي عنه، بدون أن ننسى عدم تقبّلها هويتها الجنسية. لفترةٍ قصيرة، حاولت إبرهارد تلطيف كآبتها وسد عطشها للمطلق بالسياسة برفقة شبّان عدميين، لكن بدلاً من الثورة السياسية، اختارت ثورة القلب فتوجّهت وهي في سن العشرين نحو شرقنا لتحقيق حلمها بالاتحاد بالصحراء والولادة من جديد بحلة فارسٍ عربي.
ومثل راهبٍ يسعى إلى توحيد جميع أبعاد شخصيته لتوجيهها كلياً نحو الله، تاقت إبرهارد في شرقنا إلى التناغم ورغبت في اختبار هذه الوحدة وفي التخلّص من تمزّقها بين ميولٍ متضاربة، فشكّلت تجربة الصحراء بالنسبة إليها إشراقاً حقيقياً.
ففي حر الصيف الصحراوي، افتُتنت “بقوة وهدأة الأشياء التي تبدو وكأنها تدوم بلا نهاية لسيرها ببطءٍ نحو الموت المحتم، بدون ضجيج ولا تمرد ولا هيجان ولا حتى أي رجفة”.
وأمام مناظر الصحراء التي تذكّر ببداية العالم وتثير التأملات والرغبة في السمو، شعرت للمرة الأولى بتوافقٍ مع نفسها: “يا لعذوبة غفوة الحواس والوعي في رتابة الحياة ببلاد الشمس! يا لرقة الإحساس في العيش بلا تفكير ولا فعل ولا واجب ولا ندم ولا رغبة إلا ديمومة الحاضر! يا لتلاشي الأنا السعيد في حياة الصحراء التأملية هذه”. وبسرعة، اعتنقت الشابة إبرهارد الإسلام وآمنت “بالمكتوب” قبل أن تتقرّب من الصوفية ومن قيَمها الكبرى: هدأة الرغبات، والحياة المتواضعة والحج إلى أعماق الكينونة.
خلال ترحالها في جنوب وهران بالجزائر عام ١٩٠٣، كتبت على أثر مشاهدتها مجموعة فرسان بربر: “لدى تأمّلي هؤلاء الرجال، عرفتُ بشكلٍ حميم كم أحب روح الإسلام وشعرتُ بارتجاجه داخلي، تذوّقتُ في روعة المشهد الاعتزال واللامبالاة بأشياء الحياة وبالموت”.
ولا عجب في تبنّيها حتى مفهوم الموت لدى العرب وجعلهم من المثوى الأخير “مكان راحةٍ لا تُعكر، وسيرٌ مشعّ نحو مستقبلٍ أبدي”، فقد تيتّمت منذ الطفولة وفقدت بسرعة سائر أفراد عائلتها. وبموازاة الإسلام، اعتنقت إبرهارد في شرقنا مفهوم الترحال فارتدت الزي البدوي وتنقّلت على طول الشاطئ الجزائري، من وهران إلى عنّابة، ثم طافت في منطقة الهضاب العليا وجبال الأطلس والأوراس ووادي سوف، قبل أن تتوجّه غرباً إلى المغرب وجنوباً إلى تونس.
“مثل راهب يسعى إلى توحيد جميع أبعاد شخصيته لتوجيهها كلياً نحو الله، تاقت إبرهارد في شرقنا إلى التناغم ورغبت في اختبار هذه الوحدة وفي التخلّص من تمزّقها بين ميولٍ متضاربة، فشكّلت تجربة الصحراء بالنسبة إليها إشراقا حقيقيا
“ حق التيه
وأثناء تنقّلاتها التي قادتها إلى الإقامة في مدن الجزائر وتونس، تردّدت بشكلٍ كثيف على المدارس الإسلامية والمساجد، وابتكرت حقّاً جديداً للإنسان: “حقٌ، قلة من المفكرين تطالب به، حق التيه والتشرّد. لمن يعرف قيمة ونكهة الحرية المنفردة، فعلُ الرحيل هو الأكثر شجاعة وجمالاً. أن نكون منفردين، قليلي الحاجة، متجاهَلين، غرباء ومنتمين إلى أي مكان، وأن نسير وحدنا عظماء لغزو العالم”. وبفضل هذا الترحال استطاعت إبرهارد اكتشاف شعوب المغرب العربي الذين يشكّلون في الواقع أبطال نصوصها السردية، وهم الفلاحون المجرَّدون من أراضيهم، البدو، أتباع المذاهب الصوفية، المجانين، الرعاة، المُرابطون، بنات الهوى والجنود طبعاً.
باختصار، أبناء الصحاري والواحات والقرى والمدن الذين شاركتهم الكاتبة أفراحهم وأحزانهم وانغمست في حياتهم إلى حد العبور إلى الجهة الأخرى من المرآة.
ويتجلى ذلك بقوة في النصوص والملاحظات الصادرة حديثاً والتي كتبتها إبرهارد، من داخل حياتها كعربية بدوية ومسلمة، على شكل انطباعات نضجت تحت شمس الصحراء، فأتت بأسلوبٍ نثري فريد يعكس نفْساً محمومة وكاتبة قادرة على التعبير عن نفسها من قلب ثقافة الآخر.
نصوصٌ تشكّل في الوقت ذاته دعوةً إلى الحرية والهروب والبحث الصوفي المسارّي وتجعل من إبرهارد أحد أبرز وجوه النثر الفرنسي البدوية.