: السهروردي القتيل يضجُّ: فمن يصغي؟

السهروردي القتيل يضجُّ: فمن يصغي؟
http://www.alimbaratur.com/All_Pages/X_Files_Stuff/X_File_14.htm


السهروردي القتيل يضجُّ: فمن يصغي؟

السهروردي القتيل يضجُّ:
فمن يصغي؟

تتجسَّد نظريته لأنه غالباً يسندها بإبداع

عصام محفوظ

إننا قوم متجرِّدون من حيث لا مكان.

السهروردي

لا بدَّ أن أملك الأرض.

السهروردي

الخبر في الأسبوع الفائت هو إعلان منظمة أليكسو، التابعة لجامعة الدول العربية، مباراة لأفضل سيناريو عربي عن صلاح الدين الأيوبي (1138- 1193) في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته. ولأن المنظمة على عجلة من أمرها، حدَّدت مهلة شهرين فقط لتسليم المخطوطات. إن أي سيناريو تاريخي جيد يتطلب إنجازُه سنتين، لا شهرين؛ لكن جامعة الدول العربية تنبَّهت أخيراً لقيمة الوقت، فقررت “حرق المراحل”، لكن بطريقة معكوسة: الاستنجاد بالماضي بدلاً من الاستنجاد بالمستقبل.

إن توقيت الاهتمام ببطل حطين الذي استعاد القدس من الصليبيين يبدو وكأنه ردٌّ على إعلان السيد رابين أن القدس “عاصمة أبدية للدولة العبرية”. والردُّ ينسجم مع طبيعة عمل جامعة الدول العربية منذ تأسيسها: الكلام تعويضاً عن الفعل.

لكن اهتمامات جامعة الدول العربية ودوافعها في هذه المناسبة لا تلغي أهمية المناسبة. فالرجل موضع التكريم له في التاريخ العربي والإسلامي والعالمي مكانة كبرى – ويكفي أن يكون انتزع الإعجاب من أعدائه قبل أصدقائه. ففي المكتبة الغربية من الإبداعات الفنية والأدبية التي تشيد بشخصيته أكثر بكثير مما في المكتبة العربية: إذ وضعه دانتي في الكوميديا الإلهية في مصاف مشاهير فلاسفة الإغريق. ومذَّاك تتوالى الأعمال الأدبية في موضوعه؛ وأهمها في القرن الفائت ملحمة طلمسان للإنكليزي والتر سكوت، وقبلها رواية الألماني لِسِّنغ بعنوان ناثان الحكيم، وغيرهما.

وإذا الجائزة المعلنة استطاعت أن تشحذ قرائح الكتاب العرب، فمن الأجدى ألا يكون لتكرار ما قيل، بل لاستنباط ما يجب أن يقال في هذه الشخصية الفذة، كما فعل المصري محمود دياب في مسرحيته باب الفتوح التي تكاد تكون يتيمة في بابها.

إنها سيرة غنية بالأحداث المعبِّرة؛ وكلُّها ينسجم مع شخصيًّته – باستثناء حدث واحد سأتوقف هنا عنده، لأن المؤرخين العرب كانوا يتحاشون الخوض فيه؛ إذ يشكل إحراجاً لطبيعة هذا القائد الذي بين أبرز صفاته التسامح. أما الحدث المعني فهو قتل الحكيم والشاعر السهروردي، مؤسِّس فلسفة الإشراق، بناء على اتهامات ملفَّقة ضده، بينها الكفر والزندقة والإلحاد. وفي اعتقادي أن هذه النقطة السوداء في سيرة صلاح الدين البيضاء تستحق هذه الوقفة.

***

في مطلع عام 1980 – وكنا بعدُ في مرحلة الصحافة المهجرية في باريس – شاء أحد الزملاء أن يذهب في عمله الإعلامي أبعد من الصحافة. وقبل أن يؤسِّس إذاعة عربية في باريس، خطط متفقاً مع أحد التلفزيونات الغربية لإنتاج سلسلة شرائط وثائقية عن بعض الشخصيات العربية التاريخية التي لأسمائها صدى لدى الغربيين (الأمر الذي سيحقِّقه بعد ذلك أمين معلوف في إطار الرواية). ولست أدري أين انتهى المشروع؛ لكنني أعرف كيف بدأ – والبداية لها علاقة بموضوعنا.

كان اسم صلاح الدين في رأس الشخصيات المطلوبة للتوثيق. وكان من سوء الحظ أن يختارني الزميل صاحب المشروع لكتابة سيناريو صلاح الدين، مقابل مكافأة مادية كبيرة، وحصة مئوية من الأرباح، مع سلفة فورية على الحساب. فوقَّعت العقد بعد أن زوَّدني المراجع اللازمة، عربية وفرنسية. كنت لا أزال في مرحلة التخطيط للسيناريو عندما فوجئت بأن صلاح الدين هو مَن قتل السهروردي! تجمد القلم في يدي، وعبثاً حاولت أن أتغلب على الصدمة، فاعتذرت. وإنني مدين للزميل الكريم بالشكر لأنه قابل موقفي بتفهُّم، وليس بغضب.

وطوال السنوات اللاحقة لم أجد وقتاً لأستوضح هذه المسألة التي صدمتني لكنها ظلت تشغلني. وأعتقد أنني اليوم في فرصة لتوضيحها.

الحق إنني لم أكن أعرف الكثير عن السهروردي المقتول؛ إلا أنني كنت أذكر إعجاباً به يتقاسمه يوسف الخال ود. ماجد فخري. وغالباً ما كان الخال يقارن حكمة الإشراق للسهروردي بديوان إشراقات للشاعر الفرنسي أرتور رامبو. وفي اعتقادي أن يوسف الخال هو الذي شجَّع فخري على تحقيق أحد كتب السهروردي لدار النهار للنشر عندما كان الخال مسؤولاً عنها في الستينات. وأذكر أن الخال كان يعزو اعتناق الدكتور فخري النصرانية إلى تأثره بالسهروردي المقتول.

وقد لا أشاطر الخال وفخري إعجابهما بزعيم الفلسفة الإشراقية الإسلامية، لكن هذا لا يمنع شعوري الدائم بالصدمة – ربما لأنني أشاطر بول إيلوار إيمانه بأن كل مياه البحار لا تكفي لغسل نقطة دم واحدة من كاتب يسقط شهيد معتقداته.

لذا سأحاول أن أوضح – لنفسي بقدر ما للآخرين – كيف جعل السهروردي صلاح الدين يفقد توازنه، برغم قلة المراجع بين يدي، وأهمها الجزء الثاني من كتاب حسين مروَّة النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، والجزء الثاني من تاريخ الشعوب الإسلامية للمستشرق كارل بروكلمان (وهو بعنوان “الإمبراطورية الإسلامية وانحلالها”)، والجزء الثاني من تاريخ العرب للدكاترة حتي وجبور وجرجي، إلى كتاب أمين معلوف عن الحروب الصليبية الذي نقله عفيف دمشقية إلى العربية، وتقديم إميل المعلوف لكتاب اللمحات للسهروردي.

صلاح الدين – الرحيم

يروي بهاء الدين (في كتاب أمين معلوف) فيقول: “كنت أسير إلى جانب السلطان قبالة الفرنج، فأقبل نحونا أحد كشافة الجيش ومعه امرأة كانت تنتحب وتقرع صدرها. فقال لنا: “خرجتْ من عند الفرنج وتريد مقابلة رئيسنا، فأحضرناها.” وطلب صلاح الدين من ترجمانه أن يسألها فقالت: “دخل أمس لصوصٌ من المسلمين خيمتي وسرقوا ابنتي الصغيرة. وقد قضيت الليل بطوله أبكي. فقال رؤساؤنا: إن ملك المسلمين رحيم. سوف نتركك تذهبين إليه، وفي وسعك أن تطلبي منه ابنتك. وها أنا ذي أتيت عاقدة عليك كل الآمال.” تأثر صلاح الدين وفاض الدمع من عينيه. وأرسل أحدهم للبحث عن البنت في سوق النخاسة. وبعد أقل من ساعة أقبل فارس يحمل الطفلة على كتفيه. وما إن رأتها الأم حتى ارتمت على الأرض ومرَّغت وجهها بالتراب، فبكى جميع الحاضرين… .”

لكن رحمة صلاح الدين الشهيرة لم تقتصر على الأفراد، بل كانت تطول جماعات؛ والأمثلة كثيرة. ويكفي أن نذكر ما يرويه فيليب حتي، نقلاً عن تاريخ والتر ستوبس، في مسألة قتل الأسرى، فيقول إن الفرنجة غالباً كانوا يقتلون أسراهم. أما هو فتوعَّد بقتل الأسرى بعد مقاومة عنيفة لدى حصار بيت المقدس. لكنه عندما دخله ظافراً لم يقتل الأسرى كما كان توعَّد، بل قَبِل فدية زهيدة. وعندما عجز فقراؤهم عن دفع الفدية أطلقهم دون مقابل، وهم آلاف، وزوَّد الأرامل والأيتام هدايا.

بل إن كرمه بلغ حداً لا مثيل له حين جاء “البرنس” صاحب إنطاكية فجأة إلى خيمة صلاح الدين، يطلب منه أن يعيد إليه ناحية أخذها السلطان منه قبل أربع سنوات، فأعطاه إياها.

هذا عن رحمة صلاح الدين. فماذا عن ذنب السهروردي؟

وقبل… من هو السهروردي؟

السهروردي المقتول

نقرأ في مقدمة كتاب اللمحات للسهروردي، بتحقيق إميل المعلوف، أن السهروردي الذي ولد في قرية سهرورد، في شمال غرب بلاد فارس، طلب العلم باكراً في أصفهان، ثم في ديار بكر، ثم بلاد الشام. واستقر في حلب، وهي في إمرة الملك الظاهر، ابن صلاح الدين. وفي حلب كتب أهم أعماله حكمة الإشراق، وكتاب اللمحات، وكتاب التلويحات، وكتاب المقاومات، وكتاب المطارحات، إلى عشرات الكتب الثانوية والرسائل.

عن فلسفته يقول حسين مروَّة: إن النظريات الإشراقية عند السهروردي المقتول نموذج حيٌّ للتداخل بين الفلسفة العقلانية (المشائية في شكل خاص) وبين فلسفة التصوف، إضافة إلى مصادر الفكر الإشراقي المتعددة (الزرادشتية، الفيثاغورية، الأفلاطونية، والهرمسية) في إطار الإسلام العام.

ويضيف مروَّة: من النصوص الأصلية التي يبدو أن السهروردي كان مستوعباً إياها بوعي جيد موضوعة “العالمية” التي يقوم عليها تاريخ الفكر الفلسفي، بمختلف أشكاله وتجلِّياته، في مختلف بيئاته وأزمنته. وإنه بهذا الاستيعاب وهذا الوعي بنى مذهبه التصوفي الإشراقي. لذلك فإن “الحركة الإشراقية، مذ ظهرت في إطار التصوف الإسلامي وجدت في السهروردي المقتول منظماً لنظريتها المتكاملة”.

الفلسفة الإشراقية والإسلام الرسمي

إذا كان ثمة مسافة بين صلاح الدين والسهروردي فهي المسافة بين الفكر السُّني الرسمي – ومنظِّره الغزالي، حامل لواء المذهب الأشعري – وبين الفكر المجتهد للخروج من هذه البوتقة الدينية المُحكمة، بما أن الحياة في المجتمع الإسلامي آنذاك كانت قاسية على غالبية الناس. هي المسافة بين الفقهاء المحافظين، الذين أمسوا السندَ الوحيدَ لإيديولوجية الجماعة الحاكمة، وبين الجماهير التي تعاني أشد أنواع التمزق الداخلي سياسياً وإيديولوجياً على مدى الرقعة الجغرافية الواسعة التي انتشرت عليها الدويلات الإسلامية المتصارعة.

في هذا الإطار، راحت تتبلور حركات صوفية ذات منحى أبعد من الإسلام، أو كما يقول مروَّة، طلباً للخلاص بمفهومه المسيحي، ثم الصوفي – وهو في الأساس صدى لأشواق الجماهير المسحوقة. ولم تكن الغزوات الصليبية إلا لتزيد الحرب الفكرية اشتعالاً.

والآن نضع صلاح الدين في إطار هذه الصورة، لأنه كان آنذاك يمثل الحُكم السُّني الرسمي، ونرى كيفية تعامله مع هذا الواقع، لكي نفهم تعامله مع السهروردي الذي كان يمثل وجهة النظر الأخرى.

صلاح الدين والدين

لم يُعرَف عن صلاح الدين، برغم كونه طلع من قلب الحرب الدينية وعاشها وقاتل ومات فيها – لم يُعرَف عنه التعصب. كل المؤرخين تحدثوا عن اعتداله، خاصة مقارَناً بسلفه. لذلك يقول أمين معلوف: “كان يخلو من التزمُّت السطحي الذي كان يطبع تصرفات ابن زنكي.”

ولكي ندرك حقيقة هذا الاعتدال نلقي نظرة على تعامل هذا الحاكم السُّني مع الخلافة الفاطمية في مصر (أي التيار الشيعي). إذ لدى دخوله القاهرة ظافراً، يأمره نور الدين بإعلان نهاية الخلافة الفاطمية، فلا يصدع صلاح الدين للأمر. وتتوالى رسائل نور الدين من الشام دون فائدة. ومهما تكن دوافع تجاهُل القائد الشاب أوامرَ رئيسه فإن الحادثة التالية شديدة التعبير عن إنسانيته في إطار هذا الصراع المذهبي: صعد ذات يوم جمعة منبرَ الجامعِ رجلٌ من الموصل كان يزور القاهرة، ودعا للخلافة العباسية. يتساءل معلوف في كتابه: “أيكون هذا عميلاً لنور الدين، أرسله لكي يُحرِج صلاح الدين؟” مهما يكن من أمر، فإننا نرى صلاح الدين يمنع أياً كان من إخبار الملك العاضد، آخر الملوك الفاطميين – وكان على فراش الموت – بالأمر قائلاً: “إن عوفي فإنه سيعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه قبل الوفاة.”

ومع ذلك كان ضعيفاً أمام فقهاء حلب. ويكفي أن نقرأ الإنذار الذي أرسلوه إليه في مصر حين بدا عليه أنه لا يتقيد بأوامر مولاه نور الدين: “لقد ذهبتَ بعيداً جداً يا يوسف، وجاوزتَ الحدود. فلست سوى خادم لنور الدين… لا يغرنَّك الغرور. فنحن أخرجناك من العدم، ونعرف كيف نردُّك إليه.” فكيف تم توظيف هذا التأثير في قضية السهروردي؟

الزندقة والإلحاد

كان أهل حلب مختلفين (كما يقول القاضي ابن شداد) في أمر السهروردي. إذ كان يرميه بعضهم بالزندقة والإلحاد، وينعته بعضهم الآخر بالتُقى والصلاح، بل يلقِّبه بـ”شهاب المِلَّة والدين” تارة، و”المؤيَّد بالملكوت” تارة. ويذكر الخوانساري في كتابه روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات أن ابن غياث الدين الشيرازي يشير في كتاب الذكرى إلى السهروردي وبعض المشاهير من حكماء المسلمين على أنهم ضلُّوا طريق الفضيلة، فمالوا عن أخلاق الحكماء الأوائل بإدمانهم الشراب وإقبالهم على متاع الدنيا، “حتى أغرقوا في الريبة والفجور، وطلبوا المجد من باب جمع المال وتملُّق السلطان”. لكن الخوانساري نفسه، بحسب المعلوف، ينقض هذا الرأي ويراه بعيداً عن الحقيقة لأن السهروردي كان “تاركاً للدنيا”. أما تشبيه بعضهم للسهروردي بأنه “خيَّامي” (أي كان يعاقر الخمرة مثل عمر بن الخيام) فربما لتكرار ذكر الخمرة في شعره برمزها الصوفي. فالخمرة في شعر الصوفية رمز الحب الإلهي، كما نرى لدى ابن الفارض، وكما في مطلع حائية السهروردي:

أبداً تحنُّ إليكم الأرواحُ / ووصالُكم ريحانُها والرَّاحُ

ثم إن مختلف الصفات التي كان يمكن لخصوم السهروردي أن يلصقوها به ما كانت كافية لقتله، لأن لا أحد ممَّن كانت تُلصَق بهم هذه الصفات في عصر السهروردي حُكِم عليه بالموت. فما هي التهمة المباشرة التي كانت الدافع إلى قتله؟ وإلى أي حدِّ هي صحيحة؟

محاكمة السهروردي

عندما استقر السهروردي القتيل في حلب كانت المدينة في رعاية الملك الظاهر الأيوبي، ابن صلاح الدين؛ فأعجب به وقرَّبه منه فترة، قبل أن ينقلب عليه تأثُّراً برأي الفقهاء فيه، حين أعلموه بانحلال عقيدة الشيخ وتعطيله.

وتجري “محاكمة” السهروردي في حضور الملك. والغريب أن وقائع هذه المحاكمة لا تَرِد إلا في كتاب واحد هو البستان الجامع لتواريخ الزمان الذي نشره كلود كاهن في القاهرة بين 1937 و1938 – وفيه أن الفقهاء الذين تولُّوا محاكمته وجَّهوا إليه تهمة القول في مؤلفاته بأن الله قادر أن يخلق نبياً… وأنه لم ينكر التهمة، بل حصر دفاعه في إثبات قدرة الله على ذلك.

لسنا ندري كيف استُدرِج السهروردي إلى هذا القول في مجلس الظاهر حيث استُدعِي لاستجوابه، ولا الإطار الذي يجب وضع هذا القول فيه. وبينما إميل المعلوف لا يجرؤ في سرده رواية الأصفهاني في كتابه عن السهروردي أن يذكر الأمر تفصيلاً، مكتفياً من الرواية بقوله إن السهروردي قال: “إن الله قادر على أن يخلق نبياً لأنه لا حدود لقدرته”، فإن حسين مروَّة يوضح الأمر كما ذكرنا، ثم يضيف: “إذا صحت الرواية التي تفرَّد بها الأصفهاني ينكشف أن السهروردي كان يقول بانتهاء النبوة…”!

الحق أن اجتزاء الرواية لدى المعلوف خطأ، مثل المبالغة في تفسير مروَّة لها. ذلك أن قدرة الله على خلق نبي لا تعني أن نبوة ما انتهت ما دام الله لم يخلق ذلك النبي، وإنما الأمر لا يعدو كونه افتراضاً عن قدرات الله غير المحدودة. ثم إن اقتصار سرد هذه الحادثة على كتاب واحد أمر يدعو إلى الشك. فإذا عرفنا أن بعض اللاهوتيين المسيحيين يشكِّكون في رواية قيام أليعازر من الموت لأن إنجيلياً واحداً فقط من الأربعة ذكرها، ألا يجوز التشكيك في تاريخ الأصفهاني، وهو نص غير مقدس كالإنجيل؟

وسواء كان الاتهام تلفيقاً أم كان حقيقة، فإن الأمر لا يعدو نقاشاً شفوياً لم يؤكِّده السهروردي في أيٍّ من كتبه. لقد عرف التاريخ الإسلامي ملحدين قبل ذلك التاريخ، سجَّلوا إنكارهم للنبوة في كتب ولم يتعرضوا للقتل؛ في حين أن السهروردي لا يذهب أبعد من تأكيد قدرة الله غير المحدودة التي يستطيع عبرها أن يخلق نبياً جديداً لو شاء. وهو تأكيد لا يثير الاستغراب في عالم التصوف. فكيف تمَّ توظيف هذا القول في السياسة الدينية؟

من الواضح أن فقهاء حلب كانوا يتقصَّدون إضفاء هذه الخطورة على كلام السهروردي لجعل التهمة قابلة للعقاب – وخاصة إذا كان المطلوب من العقاب توريط سلطان كان له من التسامح ما لا يناسب المواجهة الدينية التي قامت لها الحرب مع الصليبيين.

أما قول سبط بن الجوزي، في مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، إن صلاح الدين كان “مبغضاً لكتب الفلسفة وأرباب المنطق ومن يعاند الشريعة” فهو قول لا سند صريحاً له، كما نرى في تاريخ بروكلمان الذي يتناول مصرع السهروردي على هذا النحو:

“الواقع أن صلاح الدين لم يستشعر الحاجة إلى إقامة ديوان لامتحان الزنادقة إلا مرة واحدة في حلب. وتفصيل الأمر أن مهاجراً فارسياً من آسيا الصغرى يُدعى السهروردي استقر في حلب – وكان يتولَّى أمورها الملك الظاهر، نيابة عن والده صلاح الدين. وكانت للسهروردي آراء غنوصية (عرفانية) قائمة على أساس الأفلاطونية الجديدة والفيثاغورية الجديدة. وكان بعض المتصوفة، من نصارى ومسلمين، أشاروا إليها إشارات رفيقة تقول بأن ثمة نوراً روحياً يتخلَّل الكون كإشراق لدنِّي هو جوهر الأشياء جميعاً. ولا تزال فلسفته الإشراقية هذه ظاهرة في نظام الدراويش الذي سبق أن أنشأه السهروردي في آسيا الصغرى.”

ثم يضيف: “والحق أن تعاليمه ما لبثت أن أثارت شكوك علماء السُّنة، فزعموا أنه يمثل عقيدة القرامطة المُعادين للدولة. وهكذا لم يكن في وسع صلاح الدين، رغم اعتداله، إلا أن وافق على حكم الموت الذي أصدره الفقهاء القضاة على الملحد عام 1191.”

هنا نرى بروكلمان واضحاً في إدخاله التهمة في إطارها السياسي؛ مما يجعل استعداء السلطان ممكناً – وهو الذي يصف بروكلمان سياستَه بالاعتدال. ونحن نعرف أنه سلطان استطاع، بحكمته ومرونته وحلمه وديبلوماسيَّته، أن يصالح فرقة “الحشاشين” التي هي، في نظر فقهاء السُّنة، الزندقة بعينها – رغم أنه تعرض لمحاولتي اغتيال على أيديهم – فحاصرهم وكاد أن يقضي عليهم، لولا أنه قرَّر أن تحييدهم في الصراع بينه وبين الصليبيين أجدى من حربه ضدهم. ولا أعتقد أن السهروردي كان يمكن أن يشكل عليه خطراً أكثر من الحشاشين.

ثم إنه حال رغبته في إرضاء فقهاء حلب كان في إمكانه أن يأمر بنفيه، كما حدث بعد ذلك في دمشق مع أبي خليل القباني الذي استعدى فقهاءُ دمشق عليه البابَ العالي العثماني بتهمة الزندقة، فاكتفى الوالي بنفيه وهو ابن دمشق. فلماذا لا ينفي غريب من حلب؟ وهل يُعقَل أن يكون الولاة العثمانيون أرحب صدراً من صلاح الدين؟

تعليلات شخصية

قد يكون من الصعب توضيح الدافع الحقيقي الذي جعل “الجريمة” ممكنة، خاصة في سيرة شخص كصلاح الدين. لذا سأحاول أن أنظر إلى الأمر من وجوه عديدة، استناداً إلى ما نقله المؤرخون عن سلوك صلاح الدين.

من بين هذه الوجوه العديدة: لحظات ضعف سُمِّيت بالتواضع، انطلاقاً من حادثة يرويها بهاء الدين، كاتب السلطان، على هذا النحو: “كان صلاح الدين يستريح بعد تعب يوم شديد حين دخل عليه مملوك وفي يده رقعة للتوقيع، فقال السلطان: “أشعر بتعب شديد فارجع بعد ساعة.” لكن الرجل ألح وقرَّب الرقعة من وجه صلاح الدين قائلاً: “ليوقِّع مولاي!” فأجاب السلطان: “ولكن ليس عندي دواة” – وكان جالساً عند مدخل الخيمة. فلاحظ المملوك وجود دواة داخلها فهتف: “تلك الدواة داخل الخيمة” – والأمر يعني أنه يأمر صلاح الدين بإحضارها بنفسه. التفت صلاح الدين فرأى الدواة وقال: “صحيح والله!” واستلقى إلى الخلف معتمداً ذراعه اليسرى وتناول الدواة بيده اليمنى ثم وقَّع على الرقعة.”

وتشبيهاً: هل يكون صلاح الدين صدع بأمر الفتوى التي أصدرها الفقهاء، فلم يقوَ على تعديلها، ثم ندم على لحظة الضعف هذه؟

سأتابع دور من يسميه الغربيون “محامي الشيطان”، فأحاول أن أتفهَّم تلك اللحظة التي أصدر فيها ذلك القائد قراراً لا ينسجم مع طبيعة “الاعتدال” التي تميز بها.

نحن لا نعرف تحديداً موعد المحاكمة، ولا موعد تنفيذ الحكم في السهروردي. كل ما نعرفه عن هذه القضية أنها جرت عام 1191. فأين كان صلاح الدين؟ وفي أي ظرف نفسي كان؟ في عام 1191 كان صلاح الدين يتعرض لأقسى محنة في حياته، محنة حصار الملك الإنكليزي ريكاردوس (“قلب الأسد”) لعكا، الحصار الذي استمر سنتين (من 1189 إلى أواخر 1191). فماذا كان في 1191 – العام الذي وافق مصرع السهروردي؟

يقول أمين معلوف: “في أوائل صيف 1191، ما عادت نداءات المحاصرين سوى صرخات قنوط، واستسلم صلاح الدين للانهيار. وإذ فقد كلَّ أمل بإنقاذ المدينة، بكى بدمع سخي، وخاف خواصُه على صحته، ووصف له الأطباء أشربة لتهدئته. وبعد حصار سنتين برزت فجأة في الحادي عشر من تموز من عام 1191 أعلام صليبية فوق أسوار عكا.”

ويتابع معلوف، عن رواية بهاء الدين، كاتب السلطان: “كان الفرنج يهلِّلون، والناس في معسكرنا أصيبوا بالخبال؛ فالجنود يبكون وينتحبون، والسلطان كالأم الثكلى. وذهبت لرؤيته جاهداً في إدخال العزاء على قلبه، وقلت له إنه ينبغي بعد الآن أن يهتم لمصير أسرى المسلمين في عكا.”

وهكذا انتقل من كارثة عسكرية إلى كارثة إنسانية. فالمفاوضات لإطلاق جنود الحامية مقابل فدية لم تصل إلى نتيجة. وبعد وقت لا ندري تحديده يصل إلى صلاح الدين خبرُ إبادة الأسرى: “فجُمِع ألفان وسبعمئة جندي من حامية عكا عند الأسوار، ومعهم ثلاثمئة امرأة وطفل من أسرهم، ورُبِطوا بالحبال، فلا يؤلِّفون إلا كتلة بشرية واحدة، وقُدِّموا إلى المقاتلين الفرنج الذين انهالوا عليهم بسيوفهم ورماحهم وحتى بالحجارة، إلى أن لم تعد تُسمَع أية آهة.”

ولم تتوقف الأمور عام 1191 عند هذا الحد، لأن ريكاردوس، بعد استيلائه على عكا، واصل انتصاراته، ولاسيما قرب يافا، “وأصبح السلطان مقتنعاً الآن بأنه ليس في وسعه منع الغزاة من استعادة السيطرة على الساحل الفلسطيني أو الحؤول بينهم وبين بلوغ القدس التي ستكون خسارتها فادحة جداً على المسلمين. وأحس بأنه يعيش أحلك ساعات حياته العسكرية….”

وهكذا نرى في أي وقت من عام 1191 ستصله الفتوى بقتل الفيلسوف للموافقة عليها: وقت من أحلك الأوقات التي مرَّ بها السلطان. فكيف سيهتم بالتدقيق في مسألة لها علاقة بالكفر، وهو يحارب “الكفار” على أبواب القدس؟

ثم نذهب بالتساؤل إلى حد القول: هل اطَّلع السلطان حقاً على تفاصيل قضية السهروردي في ذلك الظرف العصيب الذي كان يعيشه، وهو يكاد يرى كل انتصاراته تذهب هباء؟ وعلى افتراض أن السلطان اطَّلع على القضية في ظلِّ وضع نفساني كالذي كان، هل كان قادراً على إيلاء هذا الموضوع العنايةَ الكافيةَ، بعقل بارد، كما اعتاد الأمور في زمن انتصاراته؟ ثم إننا قد نذهب أبعد من ذلك إلى أن الإعدام كان نُفِّذ دون أخذ رأيه، ثم أبلِغ إليه، فوجد نفسه ملزماً بالأمر الواقع. يؤكد هذا الاستنتاج ما رواه المؤرخون عن الملك الظاهر، ابن السلطان الذي كان الواسطة بين فقهاء حلب ووالده، في مسألة قتل السهروردي، أنه عاد فندم على فعلته واقتصَّ من خصوم السهروردي الذين تسببوا بموته.

وسواء كانت هذه الرواية صحيحة، أو من تأليف رواة حاولوا أن يخففوا من مسؤولية الأيوبيين، فهي لا تمنع أن “الجريمة” وقعت. ولم يكن للسهروردي من العمر يومذاك سوى 38 عاماً.

الموت

اختلف المؤرخون في طريقة قتل السهروردي؛ فذكر بعضهم أنه خُيِّر في كيفية قتله، فاختار أن يموت جوعاً، لأنه كانت له عادة في الرياضة، فمُنِع عنه الطعام حتى تَلِف. ومنهم من يذهب إلى أنه قُتِل بالسيف، وآخرون أنه أحرِق، وبعضهم قال إنه خُنِق بوتر.

ولسنا ندري عن صلاح الدين هل ندم بعد ذلك على مقتله، لأنه سوف ينتهي مع ريكاردوس، بعد توقيع الصلح، منهكاً. فيؤوب إلى دمشق ليموت بعد موت “ضحيَّته” بعام ونصف عام.

وهكذا يموت السلطان بعد الشاعر ميتة غامضة.

تأثير السهروردي

وإذا كان صلاح الدين قد ملك على أرض واسعة فإن السهروردي كان يقول: “لا بدَّ أن أملك الأرض.” وهو، في كل حال، ملك أرضاً أوسع من أرض السلطان الأيوبي. فبرغم عمره القصير، استطاع، انطلاقاً من الصفة التي لحقت باسمه (“المقتول”)، أن يثير قلقاً كالذي أثاره من قبلُ موتُ الحلاج، فكَثُرَ أتباعُه. ويكفي أن يكون محي الدين بن عربي أوصل الإشراق السهروردي بعد ذلك إلى ذروته الخالدة.

تتلخص فلسفة السهروردي الإشراقية بأن “النور” هو مبدأ الوجود. وكلما انحدر الوجود درجة من المصدر الأعلى انخفض مستوى “النور”. فإذا بلغ الدرجة الجُرْمية (عالم الأجسام) تضاءل حتى الاضمحلال – وبهذا نصل إلى المرتبة “المظلمة” من الوجود. وهذا يعني، بخلاف الفلسفات الشرقية السابقة، أن السهروردي لا يعترف بثنائية “النور” و”الظلام”. فالظلام ليس سوى الدرجة الأخيرة من الوجود النوراني.

ويشرح مروَّة فيقول إن النور في فلسفة السهروردي، من حيث هو مبدأ الوجود، هو مبدأ “الحقيقة” الصوفية الإشراقية التي هي هدف المعرفة. وتتشكل هذه الفلسفة من فعلي “الإشراق” و”المشاهدة”، اللذين يختلفان من حيث الاتجاه، ويتفقان من حيث الجوهر.

أحياناً يستبدل السهروردي بالإشراق والمشاهدة فِعْلَي “العشق” و”القهر”، أي: “العشق، به ينتظم الله الوجود صعوداً، وبالقهر ينتظمه نزولاً. والنفوس منطوية في قهر نورية العقول.”

وفي مجال الحركة نرى نظام الوجود، العلوي والأرضي، في صيغته الإشراقية، نظاماً حركياً شاملاً. فكل وحداته، صعوداً ونزولاً، مشاهدةً وإشراقاً، متحركة في صورة ديناميَّة دون انقطاع. ولكي تتجسَّد نظريته فإنه غالباً ما يسندها بنصوص اختصَّت بها رسائله، ومنها رسالة جناح جبريل التي يقول فيها:

“إنني تسللت من دار النساء، وتفلتُّ من بعض أحزمة الأطفال ولفائفهم عند المساء، وكنت أحمل مشعلاً، فتوجهت إلى حراس قصر أمي. وعند بزوغ الفجر نازعتْني الرغبةُ إلى سرداب أبي – وهو ذو بابين – فدخلت في أحدهما، فعاينت عشرة شيوخ صُباح. من أين جاء هؤلاء السادة؟ قال أقربُهم: “إننا قوم متجرِّدون أتينا من حيث لا مكان.” فلم أفهم كلامه. قلت: “كيف تشتغلون؟” قال: “بالخياطة. واعلمْ أنه ليس لنا زوج؛ ولكن لكلٍّ منا ولدٌ ورحى تدور. ولي أولادٌ كثر يعجز أمهر الحاسبين عن إحصائهم. ففي كل لحظة يتكوَّن لي عددٌ وافر منهم، فأرسل كلاً إلى رحاه.” فقلت للشيخ: “من أين جاءك هذا الإخصاب؟” قال: “اعلم أني لي جارية حبشية لا أنظر إليها أبداً، تجلس بين الأرحاء وهي تحدِّق في رحاها الخاصة، ورحاها تدور؛ وكلما اتَّجهتْ نحوي حدقةُ عين الصبية السوداء تكوَّن في حشاها ولدٌ منِّي، دون أن تبدر عني حركة أو يصيبني تغيُّر.” استوضحتُه كيفية هذا النظام. قال: “اعلم أني لي كلمات هي جزء من كلمته النورانية، بعضُها يقع فوق بعض، حتى اكتمال العدد.”

*** *** ***

عن النهار - 23.10.1993

2 responses

أذكر أن الخال كان يعزو اعتناق الدكتور فخري النصرانية إلى تأثره بالسهروردي المقتول.<o:p></o:p>

<tr><td width="102">

<o:p></o:p>

</td><td width="383">

Mohamad Akra<o:p></o:p>

CEO<o:p></o:p>

<u>Banan Information Technologies<o:p></o:p></u>

Phone : +249 (1) 8533-4776<o:p></o:p>

Fax :   +249 (1) 8533-8655<o:p></o:p>

</td></tr>

From: Dirassat Beirut [mailto:post=dirassat.posterous.com@posterous.com] On Behalf Of Dirassat Beirut
Sent: Wednesday, June 08, 2011 1:30 AM
To: mohamad.akra@ebanan.com
Subject: [dirassat] : السهروردي القتيل يضجُّ: فمن يصغي؟<o:p></o:p>

ان صح هذا الخبر، فهذا عجيب، فان السهروردي كان شافعي المذهب متمسكا بالسنة المحمدية. لكن الفتنة لا لون لها ولا شكل لا تبقي ولا تذر. 
Regards,Walid.