سوسن الأبطح عن جريدة الشرق الأوسط
الفتوى الاستباقية لمفتي الجمهورية اللبنانية محمد رشيد قباني، التي أطلقها الأسبوع الماضي، إن كان الهدف منها، فرملة الزواج المدني، فقد جاءت بنتائج عكسية. ليس فقط أن مجموعة كبيرة من الشباب اللبناني، ثارت وفارت تريد أن تتزوج مدنيا، مهاجمة المفتي ومطلقة حملات ضده، بل إن السياسيين أنفسهم الذين كفرهم الرجل في فتواه سلفا، تمرد بعضهم حد المجازفة وركوب المغامرة، في سبيل الرد عليه. فقد حكم سماحته على أي مسؤول يوافق على الزواج المدني - ولو اختياريا - بأنه «مرتد وخارج عن دين الإسلام، ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين».
مشكلة الفتوى ليست في مضمونها الأساس الذي سبق أن سمعناه تكرارا من رجال الدين، وإنما بتوقيتها، وبلوغها حد التكفير والحرمان من الغسل والتكفين، اللذين أثارا جل التعليقات وأكثرها حدة. فأحد من المسؤولين المسلمين لم يكن قد تفوه بكلمة بعد - سلبا أو إيجابا - ردا على حماسة رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان لإقرار قانون بهذا الشأن، لحظة أطلق قباني فتواه الصاخبة. وما كان من المتوقع أصلا من رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، أن يكون أشجع من سابقه رفيق الحريري الذي أجهض مشروعا مماثلا، بعد أن وصل إلى طاولة مجلس الوزراء للتصويت عليه عام 1998، رغم حماسة إلياس الهراوي الجامحة له يومها. المفتي قباني، المقبل على انتخابات كاسرة وحاسمة، والمتأزم من خلافاته الحادة مع مجلس الإفتاء، لا بد وجدها فرصة، لإثبات أنه حامي حمى الطائفة، قبل أن تخمد عاصفة الزواج المدني. وهي هبت وقويت إثر إقبال الشابين نضال وخلود على عقد زواج مدني في لبنان، طالبين تسجيله رسميا، ولا يزالان ينتظران الموافقة من عدمها. وكان هذا الحدث، الذي سوق إعلاميا، مناسبة مواتية، ربما، لرئيس الجمهورية ليبدي رأيه، ويذكر بأن ثمة ملفا قديما لم يبت ويتوجب طرحه من جديد، فإذا بسماحة المفتي يتلقفها طازجة، ويصدر فتواه الصادمة.
لكن قبل تلقف المفتي للقضية وتسخيرها انتخابيا وسياسيا، لا بد من التذكير بأن العروس خلود تعترف بأن هذا العقد أبرم بتشجيع ودفع من إحدى جمعيات المجتمع المدني في لبنان، ولم يأت عفو الخاطر. وبصرف النظر عما إذا كنا مع هذا الصنف المدني من الارتباط الزوجي أو ضده، فإن إجراء العقد لم يأت بمحض مغامرة ذاتية، وإنما بدفع من هيئات ممولة من الخارج، كما أن الوقوف معه أو ضده، من قبل السياسيين وحتى رجال الدين، يأتي محمولا على مصالح آنية، وغايات انتهازية.
رئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، الذي لا يريد أن يخسر صوتا واحدا في انتخابات مطلع الصيف المقبل، وجد حيلة ذكية، كي يتهرب من الجواب الصعب حين قال إن «أولويات المرحلة لا تسمح بفتح مواضيع سجالية وخلافية جديدة، وإن موضوع الزواج المدني لا يمكن أن يتم التعامل معه كمقاربة من أعلى إلى أسفل، بل هو يحتاج نيل إجماع كل المكونات الوطنية حوله».
أما النائب سعد الحريري الذي يحضر لعودته إلى لبنان، فضرب عصفورين بحجر واحد، وهو يقول إنه شخصيا مع الزواج المدني، لكنه لا يتزوج مدنيا ولا يقبل بأن يتزوج أولاده مدنيا. وقال الحريري: «تكفير الناس ممنوع. ففي إندونيسيا وتركيا وماليزيا، التي هي دول مسلمة، وملايين المسلمين فيها تحت الزواج المدني، هل يكفرهم المفتي؟ كيف ذلك؟»، هكذا أرضى الحريري كل الأطراف، وسدد سهما للمفتي المرتد عن حلفه الحريري القديم. لكن، لم يجب الحريري عن السؤال الجوهري التالي: «هل يقبل بإقرار قانون الزواج المدني رسميا لو كان رئيسا للوزراء؟»، بطبيعة الحال هكذا خطوة ستفقد أي مغوار يقبل عليها ربما نصف شعبيته، وهو ما يعقد مهمة أي رئيس وزراء تسول له نفسه مشاكسة طائفته.
يعرف سماحة المفتي، لا شك، أن الطائفة الشيعية لا تقبل بالزواج المدني، وأن الكنيسة المارونية لا ترضى بإقراره من دون أن تسبقه موافقة على قانون مدني للأحوال الشخصية (وهو أمر بعيد المنال)، لذلك ربما، سبق الجميع وأفتى. فثمة فرص لا تتكرر مرتين.
قد يبدو الزواج المدني تفصيلا صغيرا، أمام الغارة الإسرائيلية على سوريا، أو المعركة الدموية ضد الجيش اللبناني في عرسال، أو حتى إقرار قانون انتخابي ينقذ لبنان من بحر الدماء المحيط به، إلا أن الوسائل الإعلامية اللبنانية، تتمسك بإبقاء زوبعة الزواج المدني مستمرة وعاتية. أمر يشجع أنصاره، على السير قدما، وتصعيد خطواتهم، مستغلين ضعف ساستهم في الموسم الانتخابي، معلنين لائحة سوداء، تظهر أسماء السياسيين المعادين للمشروع لحرمانهم من أصواتهم الانتخابية.
الـ«فيس بوك» كشف ازدواجية البعض، فآلاف اللبنانيين الذين تزوجوا مدنيا خارج لبنان، ويحق لهم تسجيل زيجاتهم في وطنهم، بدأوا بوضع صورهم على صفحة «تزوجنا مدني... ع قبالكن». فما هو بيت القصيد، إذن، من كل هذه المعركة المفتعلة؟ إما أن الزواج المدني ممنوع على اللبنانيين أو أنه مقبول؟ وبما أن أكثر من عشرة ملايين لبناني يعيشون خارج وطنهم وغالبيتهم في دول أجنبية تعتمد الزواج المدني، بينما أربعة ملايين فقط في لبنان، قد تظهر إحصاءات جدية تجري، أن الغالبية الساحقة من هؤلاء يتزوجون مدنيا. هذا النفاق يصبح أكثر حدة، حين نعرف أن وزيرين في حكومة سابقة صوتا ضد الزواج المدني رغم أنهما يعيشان زوجيا في ظله. ونواب كما وزراء حاليون، متزوجون هم أو أولادهم مدنيا ومع ذلك يرفضون تأييد صدور قانون يبيحه لغيرهم.
بدأ التحضير لعرس جماعي، يشارك فيه فنانون كبار، وتموله شخصيات معروفة، يوم ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية في 13 أبريل (نيسان) المقبل وسط بيروت، حيث سيرتبط الأحبة بعقود مدنية، ويطلب من الدولة اللبنانية تسجيلها. القصد إحراج المسؤولين وإسقاط الأقنعة على مسافة أقل من شهرين من بدء عملية الاقتراع.
الظريف أن قضية المناداة بالزواج المدني لم تعد مجرد قناعات مدنية، بقدر ما هي موضة شبابية يريد أن يلتحق بها كثيرون، لا مشكلة لهم مع الزواج الديني، بقدر ما هم محمولون بفكرة يروج لها باحتراف. هذا التيار يكبر في لبنان ويتحد مدفوعا من هيئات المجتمع المدني الممولة أوروبيا وأميركيا في غالبيتها الساحقة، مقابل تكتلات دينية مختلفة المشارب لا تنقصها التمويلات الخارجية هي الأخرى. فمن يدفع ويمول باتجاه وضع الطرفين المتناقضين في مواجهة مفتوحة؟ إنها حرب على هامش حروب كثيرة، منها الظاهر والخفي، تبدو في ظاهرها ظريفة خفيفة، لكنها تخفي غابة من التعقيدات والدلالات الخطيرة. ألم ينتصر المفتي، بفتواه، من حيث لا يعلم، للزواج المدني ويمنح أنصاره الحجج والبراهين على أن رجال الدين يتحكمون فيهم؟ أما كان من الذكاء أن ينتظر مواقف السياسيين التي لن تجرؤ على تخطي أمزجة طوائفها؟ أم أن كل شيء يجب أن يستغل وتفوح منه رائحة السياسة غير المستحبة، بما في ذلك الزواج وإنجاب الأطفال والتغسيل والتكفين ودفن الموتى؟