معركة المنبر والكاريكاتير.. بين الشيخ والرسام

معركة المنبر والكاريكاتير.. بين الشيخ والرسام
http://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=87970



في ٢٧ من مايو عام ١٩٦٢ انعقد المؤتمر الوطني للقوي الشعبية برئاسة جمال عبدالناصر، وكان أحد المتحدثين فيه الشيخ محمد الغزالي، وفي ٢٨ من مايو ١٩٦٢ خرجت صحيفة «الأهرام» تحمل أخبار المؤتمر في صدر صفحاتها، ومنها كلمة الغزالي، والتي طالب فيها بتحرير القانون المصري من التبعية الأجنبية، وتوحيد الزي بين المصريين،

والتأكيد علي حشمة المرأة، وألا تكون عارية الصدر والظهر والساقين، وتضمنت الصفحة الأولي من الأهرام صورة الشيخ الغزالي متحدثاً أمام أعضاء المؤتمر وتحتها تعليق «لأول مرة في المؤتمر الوطني تعرضت المرأة لهجوم من الشيخ محمد الغزالي ولم تسكت عليه عضوات المؤتمر، فقاطعنه أكثر من مرة».

وفي اليوم التالي كانت آراء الشيخ الغزالي هي موضوع كاريكاتير صلاح جاهين، وحمل الكاريكاتير عنوان «هاجم الشيخ محمد الغزالي كل القوانين والأفكار الوافدة من الخارج»، أما الرسم فكان يصور الشيخ واقفاً علي المنصة يلقي كلمته منفعلاً أمام رواد المؤتمر، وقد سقطت عن رأسه عمامته البيضاء، وتحت الرسم التعليق الساخر «الشيخ الغزالي: يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج، كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية».

وغضب الشيخ الغزالي لذلك ولم يسكت، وفي جلسة المؤتمر التي انعقدت صباح يوم صدور الجريدة راح الشيخ يهاجم صلاح جاهين، الذي قام بنشر كاريكاتير آخر أكثر سخونة في ٣٠ مايو يسخر فيه من آراء الشيخ الغزالي في المرأة والزي الذي ترتديه.

وبالطبع هاجم الشيخ الغزالي فعاد لمهاجمة صلاح جاهين في جلسات المؤتمر، ورد علي سخريته من آرائه رداً عنيفاً، وشرح الأهداف التي قصدها من وراء كلمته التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وهي اعتراضه علي أن يظل الشرق العربي الإسلامي محكوماً بقانون فرنسي، وأنه لم يهاجم القوانين العلمية الثابتة كالجاذبية الأرضية، لأن الإسلام ليس ضد العلم، وأشار إلي سخرية صلاح جاهين من عمامته في رسوماته،

وحرض أصحاب العمائم قائلاً: «إن مهاجمة العمامة البيضاء أمر يستدعي أن يمشي العلماء عراة الرأس إذا لم تحم عمائمهم»، وقال «إنه لم يركز في كلمته علي قضية الأزياء، فإذا كانت الكلمة قد استغرقت ٢٠ دقيقة فإن موضوع الأزياء لم يستغرق أكثر من ٣ دقائق».

اختتم الشيخ الغزالي كلمته قائلاً: «إن هذا المؤتمر يعطي الحق لكل فرد ليقول الكلمة الأمينة الحرة التي يجب ألا يرد عليها بمواويل الأطفال في صحف سيارة ينبغي أن تحترم نفسها».

وأشعلت هذه الكلمات المعركة وأثارت محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام فنشرت الصحيفة في اليوم التالي ٣١ مايو ١٩٦٢ في صفحتها الأولي تعليقاً تحت عنوان «كلمة الأهرام»، جاء فيها إن «الأهرام» تقدس الدين وتحترمه، ولكنها ترفض محاولة الشيخ الغزالي أن يجعل من الخلاف في الرأي بينه وبين صلاح جاهين رسام الجريدة قضية دينية، وإن الجريدة تؤمن بحرية الرأي، لذلك تنشر نص كلمة الغزالي احتراماً لحقه في إبداء رأيه مهما كان مختلفاً مع رأي الجريدة، مع إعطاء الحق لصلاح جاهين أن يبدي رأيه هو الآخر فيما يقوله الشيخ.

وفي الصفحة السابعة من العدد نشر كاريكاتير لصلاح جاهين يواصل فيه حملته علي الشيخ الغزالي، وكان يحمل عنوان «ملاحظة علي إغفال الشيخ الغزالي مشكلات المعيشة والمواضيع الحيوية»، أما الرسم فيصور مظاهرة لأطفال مشردين تنطق وجوههم بالبؤس والشقاء، وهم يحملون لافتة مكتوباً عليها «أين الكساء يا مشرع الأزياء.. لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء»، ويظهر الشيخ الغزالي معترضاً طريق المظاهرة وهو يصرخ فيهم، وتحت الرسم تعليق: «مابتكلمش عنكم ياجهلاء لأنكم ذكور، وما ظهر من جسمكم ليس عورة».

وفي صباح اليوم التالي «الجمعة» أول يونيو ١٩٦٢ فوجئ قراء الأهرام بستة رسوم كاريكاتيرية لجاهين، وهو عدد غير مسبوق، وحملت الرسومات الستة عنواناً هو: «تأملات كاريكاتيرية في المسألة الغزالية»، وكان الواضح من هذه الرسوم أن المعركة بينه وبين الشيخ الغزالي قد وصلت إلي الذروة، فتحت عنوان «أبوزيد الغزالي سلامة» رسم صلاح جاهين الشيخ الغزالي وهو يمتطي فرساً علي طريقة أبوزيد الهلالي، ووجه الشيخ صوب ذيل الفرس، ويحمل في يده حربة مخيفة مكتوباً عليها «الإرهاب باسم الدين»، وتحت الرسم تعليق شعري ساخر يقول:

هنا يقول أبوزيد الغزالي سلامة

وعينيه ونضارته يطقو شرار

أنا هازم الستات ملبسهم الطرح

أنا هادم السينما علي الزوار

أنا الشمس لو تطلع أقول إنها قمر

ولو حد عارض.. يبقي من الكفار

ويا داهية دقي لما أقول ده فلان كفر

جزاؤه الوحيد الرجم بالأحجار

فأحسن لكم قولوا (آمين) بعد كلمتي

ولو قلت! الجمبري ده خضار!

قام الشيخ الغزالي بنقل المعركة إلي المنبر، وشن هجوماً ساحقاً علي صلاح جاهين ورسوماته أثناء الخطبة، وكانت لكلمات الشيخ وبلاغته فعل السحر في نفوس المصلين، وكان أغلبهم من طلبة الأزهر المتحمسين المريدين للشيخ ومن أتباعه، فما إن انتهت شعائر الصلاة حتي خرج الشباب في مظاهرة عارمة حملوا فيها الشيخ الغزالي علي الأعناق، ثم توجهوا إلي مبني جريدة «الأهرام»، وارتفعت أصواتهم بالثورة علي صلاح جاهين،

 وكادوا من فرط الغضب يعتبرونه عدواً للإسلام، ولم يكتفوا بالصياح، بل التفوا حول المبني ورموه بالطوب وكسروا زجاجه، وغضب الأستاذ هيكل من هذه التصرفات الطائشة، فكتب مقالاً وقعه باسم «الأهرام» اتهم فيه الشيخ الغزالي بتحريض المتظاهرين.

وفي العدد نفسه، نشرت الأهرام كاريكاتيراً جديداً لصلاح جاهين، الرسم يصور صلاح واقفاً أمام منصة القضاء وخلفه الشيخ الغزالي، وقد رشق صلاح جاهين في ظهره بخنجر مكتوب عليه «الإرهاب» وتحت الرسم تعليق: «العبدلله: ودلوقتي بعدما الغزالي أبدي رأيه بطريقته الخاصة الموضحة بالرسم، نشرح له مرة أخري أهداف الميثاق».

وكان علي المسؤولين أن يتدخلوا لفض المعركة، التي باتت تهدد الأمن والنظام، ففي اليوم التالي نشرت الأهرام خبراً عن اتصال بين كمال الدين حسين، نائب رئيس الجمهورية، والأمين العام للمؤتمر الوطني للقوي الشعبية، والأستاذ هيكل رئيس تحرير الأهرام، طلب منه تجاوز موضوع الخلاف بين الجريدة والشيخ الغزالي، وضرورة الانصراف إلي مناقشة الميثاق، كما أكد أن احترام الدين وإجلاله أمر يحرص عليه الجميع.

هذا ما نشرته الأهرام، وما لم تنشره هو أن كمال الدين حسين طلب من الأستاذ هيكل ودياً إجراء مصالحة فورية بين الشيخ الغزالي وجاهين، وبالفعل تلقي الغزالي دعوة لزيارة الأهرام، والتقي الغزالي هيكل الذي أكد مجدداً دور الشيخ ومكانته، ولأن الأهرام لم يقصد الإساءة لشخصه، وإن الخلاف في وجهات النظر لا يعني الخصومة والعداء، واستدعي هيكل جاهين إلي مكتبه وتم الصلح.