يقول الحافظ ضياء الدين المقدسى، قال: كتب بعضُهم إلى أبى الوفاء بن عقيل يقول له: صِف لى أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفتهم، فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا فى العلوم الغامضة، بل دققوا فى الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها. لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآى والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار. والله يعلم أننى لا أعتقد فى الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام.
كأن الشيخ الجليل يصف واقعنا، فهو لا ينقد تدين الناس وإخلاصهم، وإنما ينقد انغلاقهم، وقد عبر عن ضرورة إضفاء لمسة من العقلانية إلى تفكيرهم، وهو ما سعى إليه ولكن واجهه عتاة الانغلاق ورعاته من أقطاب المذهب الحنبلى، فرموه بالتهمة التقليدية لكل من يخالف أوهامهم فى امتلاك الحق بالكفر والزندقة، وطالبوه بترك الجلوس مع أصحاب العلوم العقلية، وهو ما رفضه الإمام ابن عقيل يقول يريد أصحابنا الحنابلة منى هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمنى علما نافعا، قلت -الذهبى-: كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى.
ثم ما لبث الأمر أن تطور من تكفير إلى إهدار للدم، حين وجدوه يترحم على الحلاج فى كتاب له، فلم يعوا أن انفتاحه على الآخر جعله يتفهم موقفه وأورثه قدرا من السماحة وتقبل الآخر، وهذه الأخيرة رذيلة كبرى عند منغلقى الحنابلة منذ القدم لذا أحلوا دم مجددهم.
لقد صار الإمام ابن عقيل مدرسة جديدة وسطى بين المدرستين المتصارعتين، فهو حنبلى المذهب والمعتقد وعقلانى الفكر والعلم، يقول العماد الحنبلى فى «الشذرات» «إن أصحابنا -الحنابلة- كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وابن التبانى شيخى المعتزلة، وكان يقرأ عليهما فى السر علم الكلام واطلعوا له على كتب فيها شىء من تعظيم المعتزلة والترحم على الحلاج، وغير ذلك، ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم وطلبوا أذاه فاختفى ثم التجأ إلى دار السلطان». ويقول ابن قدامة المقدسى الحنبلى فى كتابه «تحريم النظر فى كتب الكلام» «وكان أصحابنا يعيرون ابن عقيل بالزندقة وقد أهدر الشريف أبو جعفر -كبير الحنابلة فى عصره- دمه وأفتى هو وأصحابه بإباحة قتله»، اختفى ابن عقيل عنهم وظل طريدا لأربع سنين والحنابلة يطلبونه لقتله إلى أن حدثت حادثة مفزعة يرويها المقدسى بقوله: «وكان ابن عقيل يخفى مخافة القتل، فبينما هو يوما راكب فى سفينة فإذا فى السفينة شاب يقول تمنيت لو لقيت هذا الزنديق ابن عقيل حتى أتقرب إلى الله تعالى بقتله وإراقة دمه، ففزع وخرج من السفينة، وجاء إلى الشريف أبى جعفر فتاب واستغفر»، لقد خرجت الأمور عن كل حدود العقل وجيَّش الحنابلة شبابهم ضد ابن عقيل وباتوا فى سباق للعثور عليه والتقرب إلى الله بدمه، فأدرك الحنبلى العقلانى ابن عقيل خطورة الموقف وأراد إنهاءه فجاءهم مظهرا توبته لتهدأ الأمور، وكتب لهم توبة واعتذارا ليوقفوا هذا الجنون، بينما ظل على معتقده فى السلفية العقلانية البعيدة عن النصوصية الجامدة المتحجرة، ولم يكتشفوا ذلك إلا بعد موته حين وجدوا كتبا بها مدحه للعقلانيين، يروى ابن العماد «ولما مات رحمه الله فى سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شىء من تعظيم المعتزلة والترحم على الحلاج وغير ذلك».