الرمز الشعري واغتراب اللغة في المنظور الصوفي 2
ب. رموز الطبيعة أو الإلهام الروحي للطبيعة:
لقد نظر الصوفي إلى الطبيعة بوصفها تعينات وفيوضات مادية للجمال الإلهي فحاول استنطاقها والتوصل من خلالها إلى فك شيفراتها التي يخاطبنا بها العلو، وهذا يئول بنا إلى فرق جوهري يحيل إلى اختلاف أساسي بين نمطين: الأول عيني حسي خالص في وضع لاتجاوزي، والثاني عيني حسي يتعالى بواسطة الكيف الحسي الخيالي إلى تركيب شهود عياني لسريان الألوهية في الطبيعة التي تحولت، من خلال الموقف الروحي والتشكل الغنوصي للتجربة الصوفية في إهابتها بالعلو المحاديث، إلى شيفرة أو شيفرات يقرأ الصوفي فيها، بضرب من الكشف، لغةً ذات حدين إحاليين أحدهما حسي فيزيائي والآخر روحي إلهي[1]، فيرسي تصورًا عرفانيًا للطبيعة يعتقد في سريان الجوهر الإلهي فيها جامدها وحيها، وتحليلاً للعلاقة بين الوحدة والكثرة المنبثقة فيها، فعالم الطبيعة، على حد قول ابن عربي، "صور في مرآة واحدة بل صورة واحدة في مرايا مختلفة"[2].
ولظهور الوجود الواحد الحق في مرايا الحقائق والأعيان فإن العارف يستطيع، عن طريق التراسل، أن يصل إلى جوهرها ويضايف بينهما وبين الحقائق العلوية. وبذلك يحدث التضايف بين المفاهيم المجردة والمرائي المادية والتعينات التي عينها الوجود الحق. وبالطبع لا نستطيع أن نحصي كل الرموز المأخوذة من الطبيعة، ولكن نقتطف منها بعضها.
1. رمز الطير:
نظرت العرفانية الصوفية إلى الطير نظرة خاصة رمزوا بها عن النفس الكلية والروح المنفوخ في الصور المسواة، كما يقول الكاشاني:
الورقاء هي النفس الكلية التي هي قلب العالم وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين[3].
والنفس هنا لا تعني الحقيقة الذميمة في الجسد الترابي، ولكن ربما رمز الشعراء بالطير إلى الروح، وهو رمز ميثولوجي صورت الروح بواسطته على هيئة طائر ذي رأس إنساني يحلق بعيدًا عن الجسم بعد الموت، ولكنه يتعشقه فيعود إليه كرة أخرى.
وفي تراث الشعر الصوفي اكتسبت صورة الطير الدلالة ذاتها، ورمز الشعراء بها إلى تذكُّر الروح عالمها المثالي الأول، وحنينها إليه حنين الغريب إلى وطنه. ويظفر القارئ بهذه الدلالات في قصيدة ابن سينا العينية، وفي رسائل الطير، والمنظومات المطولة كالقصيدة المعروفة بـمنطق الطير لفريد الدين العطار...[4] الذي استخدم الطير أسلوبًا رمزيًا في صياغة شعرية حافلة بخيال واسع وصور مبتكرة متنوعة كما اتضح في كتابه منطق الطير[5].
وكان لهذا السبق لابن سينا والعطار أثرهما فيمن جاء بعدهما من شعراء الصوفية الذين استخدموا الحمام (الورق) الذي يشير إلى الروح التي تحن إلى مصدرها النقي، فنجدها في تنازع بين العلو والهبوط، تشدو تارة وتبكي أخرى. يقول ابن الفارض في التائية الصغرى:
ولولاك ما استهديت برقا، ولا شجت فؤادي فابكت إذ شدت ورق أيـكة
فــذاك هــدى أهدى إلـي وهذه على العود إذ غنت عن العود أغنت[6]
كنى بالورق عن الروحانيات الكاملات من أرواح المشايخ المحققين، وبالأيكة عن الجسم المختلف المزاج والطبيعة، وجمع الورق لكثرة اختلاف مشارب الأرواح وإفراد الأيكة لاتحاد الجسماني من العناصر والطبائع. فكل ورقاء على غصن من تلك الشجرة الواحدة[7]. ويكون البكاء والفرح على قدر قرب تلك الروح من حقائقها التي تبحث عنها أو بعدها عنها.
وكان عفيف الدين التلمساني مغرمًا بذكر مظاهر الطبيعة الغنَّاء ومنها الطير والحمام على وجه الخصوص. يقول:
وورق حمائم في كل فن إذا نطقت لها لحن صواب
لها بالظل أزرار حـسان وأطواق ومن ورق ثياب[8]
وفيها:
وللأغصان هينمة تحاكي حبايب رق بينهم العتــاب
تثنت والحمام لها يغنـي كشرب مدامة شربوا وطابوا[9]
ويقول:
على عطفة حتى من الورق غيرتي ألم ترها هاجت على الغصن الرطب[10]
دعانـي انكسار الجفن منه لضمة فجاوبني: ما للغصون سوى الهضب
وغردت تغريد الحمام توصـــلا إليه لما بين الحمائم والقضــــب
وقلت زكاة الحسن فرضًا فقـال لا تميل الغصون الورق إلا على الندب[11]
ومن خلال هذه الأمثلة وغيرها[12] في شعر التلمساني نلاحظ تخطي الشاعر لرمز الحمام ككون محسوس، وينعطف منه تجاه الحياة الباطنية وما تحمله النفس والروح من مجاهل وأعماق. فمثلما تحلق الطيور فرحًا ومرحًا وغناء، كذلك تحلق الروح فرحًا وغناء بحالة الاتحاد والفناء الذي يحقق لها القرب من المصدر النقي الذي يمثل الوطن الأصلي لها، وتبكي إذا نأت عنه، وتتطلع إلى العودة إليه مرة أخرى. يقول أبو الحسن الصباغ:
حمام الأراك ألا فاخبرينــا بمن تهتفين ومن تندبينــا
فقد سقت ويحك نوح القلوب فأجريت ويحك ماء معينــا
تعالي نـقــم مأتمًا للغرام ونندب أحبابنا الظاعنينــا
واسيتك بالنوح كي تسعدينا كذاك الحزين يواسي الحزينا[13]
في هذه الأبيات، وفي غيرها التي يقول في مطلعها:
أتبكي حمام الأيك من فقد إلفها واصبر عنـه كيف يكـون
ولم لا أبكي ثم أندب ما مضى وداء الهوا بين الضلوع دفين[14]
فعلام تبكي الحمام؟ إنها تبكي على فقد إلفها. وهنا إشارة إلى النفس والروح اللذين يبكيان لفقدانهما مصدرهما النقي. وهكذا يمثل الطير أو الحمام وسيلة ربط بين العلو والأرض، حيث أن الروح تتطلع إلى العلو ولكن الأرضي المادي يجذبها إليه ولا يوافق على فقدها، ولذا فهي تبكي.
2. رمز الظباء والغزلان:
يوظف الصوفية من الطبيعة رمز الغزال الذي تردد في الشعر العربي إشارة إلى الجمال، ولكن مع النفور وعدم الاستقرار، ولذلك نرى شعراء الصوفية يحسنون توظيف هذا الرمز بدلالتيه. يقول التلمساني:
غزال الحي من أثلاث نجد لوجهك وجهتي وهواك قصدي
ودينك في مداومة التصابي علي ولي وفي قلبي وعنـدي
أحن إذا تبسمت النعامـى معطرة بمسحب زيل هنــد[15]
إذا كان الغزال هنا ملمح جمال ورمز للذات الأهية التي يوجه إليها وجهه ويدين بهواها، منذ أخذ عليه العهد وهو في عالم الأرواح قبل خلق الأجساد، في يوم عرف عند الصوفية باسم "ألست" إشارة إلى قوله تعالى: "أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى". (الأعراف).
ويرمز للذات النافرة عنه الجامحة بهواها عن مواصلته بظبي فلاة شرود:
وظبي فلاة آنس فكأنــــه لرائيه عند الالتفات شرود
ترقرق ماء الحسن في وجناته وليس لظمآن إليـه ورود[16]
فالرؤية الفنية للتلمساني مختلطة بتجربته الصوفية وأفكاره الفلسفية التي لا يمكن تنحيتها جانبًا أثناء تحليلنا لشعره، ومن ثم فلفظ الظبي يمثل الذات الإلهية في حسنها وتعينها، ويؤكد هذا المعنى ابن الخيمي في قوله:
بالشعب من شرقي نجد غزال حلو الجنايات مليح الســلال
لا الأهل أهل حين يبدو لنـا حسن محياه ولا المال مــال
هون شكواي الهوى عنــده زل المحين وعز الجمـــال
أهلا وسهلا بوصال الضنـى في حبه إذ لم يجد بالوصــال
لعلنــي ألقاه وقتـــًا إذا ما كان وسنانًا وجسمس خيال[17]
وفي قصيدته:
ما ضر من ملك فؤادي بأسره لو لم يضع بعض الجميل بهجره[18]
يقول فيها:
لم اسمه بالشمس حيث طلوعه ما كان إلا فـــي دجنة شعـره
منح الغزال ملاحة من لحظـه وكســا الغزالة خلقة من بشره
وأقــام في قلبي وأوقد ناره فيـــــه ورد فقيره عن بره
تدعو محاسنه ويـزجر صده قد حرت في إذن الحبيب وزجره[19]
في المثالية حدث تضايف بين الذات الإلهية كمحبوبة عليا حقيقية وبين الرموز التي ترمز إليها والمعاني الروحانية التي تتعلق بها. ولأن الرمزية بصفة عامة كانت مذهب الجمال الأمثل وكانت مظهرًا صرفًا للجماليات[20] فالرمزية الصوفية تفوق الرمزية الفنية وارتباطها بالجمال وبحثها عن مواطنه، ولهذا نرى الشاعر يرمز إلى الذات الإلهية بالغزال في جماله ورشاقته، وكذلك بالشمس في ملاحتها وضيائها، ولكنها محجبة خلف غلالة من الكثرة المادية. وهذا الرمز ليس بجديد، ونجده عند ابن عربي في قوله:
بذي سلم والدير من حاضر الحمى ظباء تريك الشمس في صورة الدمى[21]
وفي قوله:
فللظبي أجيادًا وللشمس أوجها وللدمية البيضاء صدرًا معصما[22]
ويفسر ابن عربي هذا الرمز في شرحه لـترجمان الأشواق بقوله و"للشمس أوجها" من قوله عليه السلام: "ترون ربكم كما ترون الشمس"[23]. والشمس هنا رمز أنثوي، وكذلك الغزال. ويغلف ابن الخيمي ذلك بحديثه الرائع عن الجمال، ويضع في طريق المتلقي القرائن الدالة على المعنى الحقيقي مثل كون الله في القلب، لأن "القلب بيت الله" كما جاء في الحديث الذي كان لمعناه شأن كبير عند الصوفية، وقرينة أخرى في كون ذكر هذا المحبوب شافع لغفران الذنوب.
ويستخدم ابن الفارض رمز الغزال مشيرًا به إلى الجمال والحسن الإلهي، وكذلك إلى النفس النافرة حينًا والطبيعة حينًا آخر، ففي قصيدته:
صد حمى ظمأى لماك لماذا؟ وهواك قلبي صار منه جذاذا[24]
يقول فيها:
عنـت الغزالة والغزال لوجهه متلفتًا، وبـــه عياذًا لاذا
وبجزع ذياك الحمى ظبي حمى بظبي اللواحظ إذ أحاذ إخاذا[25]
فالغزالة والغزال إشارة إلى النفس الإنسانية التي ألهمت صوابها. يقول النابلسي:
كنى بالغزالة عن الروحانية الإنسانية المشرقة على العالم الجمساني، وبالغزال عن القلب الإنساني المتلفت بالفكر والخيال إلى عالم الإمكان. كنى بالحمى عن قلب العارف أيضًا، وكنى بالظبي عن جناب الغيب المطلق الذي لا يزال نافرًا عن الحصول لكمال تنزهه عن مدار العقول...[26]
* * *
ت. الرموز الدالة على الاغتراب:
إنَّ الصوفي - كما أسبقت في الفصل الأول - كان في حالة اغتراب دائمة، لا تنقطع داخل وطنه وخارجه، بينه وبين ذاته، وكذلك كان دائم الشعور باغتراب الروح عن موطنها الأصلي الذي تحن إليه وتتطلع إلى اجتياز كل العقبات التي تمنعها من الوصول إليه[27]. وورد في شعر الصوفية بعض الرموز الدالة على الاغتراب نتناول أهمها فيما يلي:
1. رمز الناقة والعيس:
رمز شعراء الصوفية للنفس الإنسانية السالكة إلى ربها بالعيس والناقة والوجناء التي يركبها المريدون حتى توصلهم إلى مراتب المعرفة والولاية، وهذا يعني أنها وسيلتهم في سفرهم إلى الله. يقول ابن الفارض:
يا راكب الوجناء، بلغت المنى عج بالحمى، إن جزت بالجرعاء
متيممـًا تلعات وادي ضارج متيامنًا عن قاعة الوعســـاء[28]
ويقول في قصيدة أخرى:
يا راكب الوجناء، وقيـت الـردى إن جبت حزنًا، أو طويت بطاحا
وسلكت نعمان الأراك، فعـج إلى واد هناك، عهدته فياحــــا
فبأيمن العلمين مــــن شرقيه عرج، وأم أرينة الفواحــــا[29]
نلاحظ التكرار بين الرمزين مما يعطينا دلالة على حرص ابن الفارض على ذكر الملامح البدوية والصحراوية ذات الدلالة في شعره، والتي تجمع أذواقه في صور مادية وطبيعية، وكذلك تدل على معايشته لتجربة روحانية واحدة. يقول النابلسي:
كنى بالوجناء، أي الناقة الشديدة، على النفس المطمئنة فإنها شديدة القوة لإطمئنانها على أمر الله تعالى القائمة به، وهي نفس السالك الصادق في سلوكه، فإنه راكبها وهي مطمئنة معه ومطاوعة له، وكنى بالحمى عن الحضرة الإلهية، يعني أقم في مراقبتها، وكنى بالجرعاء عن مقام المجاهدات النفسانية والمكابدات الإنسانية في طريق الله تعالى[30].
ويقول في موضع آخر:
وهل نزل الركب العراقي معرفـًا وهل شرعت نحو الخيام شرائع
وهل رقصت بالمأزمين قلائـص وهل للقباب البيض فيها تدافع[31]
الركب كناية عن الأولياء العارفين بربهم، وقوله: "قلائص" كناية عن النفوس الإنسانية في حال سلوكها في طريق الله، وهي حاملة أثقال التكاليف الشرعية وعهود المشايخ"[32].
ونلاحظ هذا الرمز كذلك عند ابن دقيق العيد في مثل قوله:
لقد بعدت ليلى وعز وصالها كما عز بين العالمين مثالها
فمن لي بنوق لا تزال تمدها قواها ولا يدنو إلى كلالهـا
ولكنها جسم يذوب وصبـره يحول وأرواح يخاف زوالها[33]
في هذه القصيدة نلاحظ أسلوبًا مكتملاً من الحب العذري والاغتراب للوصول إلى جانب هذه المحبوبة التي عز وصالها فتحركت الأنفس شوقًا - على الرغم من ضعف قدرتها -، في سفرها تركب مطايا الأجسام التي تفارقها عند وصولها إلى بغيتها. وفي قوله: "ولكنها جسم"، أي ما زالت تتعلق بالجسم الترابي وبصفاته الكثيفة، ولم تصل بعد إلى اللطافة المرجوة.
ولا يخلو ديوان من دواوين الصوفية من رمز الناقة، لأنه يدل على صدق مجاهداتهم وسلوكهم المستمر إلى الله والرياضة النفسية التي يتبعونها لتنقية نفوسهم من شوائب الذنوب، حتى تصبح روحانية لطيفة، وهذا ما نلحظه في قول علي بن منصور الأرمنتي (ت 695 هـ):
أقول وقد لاحت بروق عـلى قبا وعنق اشتياقي عن رفاقي لا يلوى
وحادي المطايا بالركائب قد حدا بسفح اللوى وهنا ترنم بالشكـوى
أأحبابنا بالبيت بالركن بالصفــا بزمزم زيحوا ما بقلبي من البلوى[34]
وبعد أن وصلت إلى مرادها يقول ابن عطاء الله السكندري:
قف بالديار فقد بدا مغناهــــا فلمن يسير وما المراد سواها
وأرح قلوصك فقد بلغت المنـحنى فلطالما جهدت ودام سـراها
ولطالما قطعت مهامة واغــتدت أرساغها مخضوبة بدماهـا
تمسي وتصبح لا تمل من السرى حتى شكت بأنينها ووجاهـا[35]
يمزج الوقوف على الديار بوصف الناقة، ويسقط على الأنماط الفنية الموروثة رموزًا وتلويحات يحكمها بناء عرفاني يستمد كيانه من ذاته، وهذا ما لاحظناه في رمز الناقة الذي ألبس – على يد الصوفية – لباسًا جديدًا معبقًا بروائح التقوى. ويشير بالحادي إلى الله الذي يسوق النفوس إلى مستقر الرحمة والرضوان.
2. رمز الأماكن البدوية والحجازية:
مثَّلث الأماكن البدوية والحجازية رمزًا صوفيًا ذا طبيعة غنوصية لما ترمز به على القرب من الحضرة الإلهية، ومن ثم أحالتها الصوفية رموزًا وتلويحات مشوبة بالوجدان والمعرفة، فخطت بها خطوات نحو تجريد ميتافيزيقي، والغوص فيما تنطوي عليه صورها من كيف حسي مفعم بالإيحاء.
ونأخذ من ابن عربي مثالاً على التلويح بهذه الأماكن الحجازية. يقول في ترجمان الأشواق:
ألا يا ثرى نجد تباركت من نجد سقتك سحاب المزن جودًا على جود
وحياك من أحياك خمسين حجة يعود على بدء، وبدء علــى عود
قطعت إليها كل قفر ومهمــة على الناقة الكوماء والجمل العـود
أراد ثرى نجد مركب العقل وسحائب المعارف تسقيه على علم وخمسين حجة عمر المركب في هذا الوقت...[36]. فلقد أخذت الأماكن منحىً معرفيًا غنوصيًا بإشارتها إلى أمور معنوية لا يصل إلى جوهرها إلا العارفون. ولذلك أكثر منها شعراء الصوفية في القرن السابع بطريقة مفرطة، وهذا نابع من مقدار ما في داخلهم من أسرار وفيوضات أرادوا الرمز لها بأمور ذات شرف لقربها من أماكن الفتوحات الإلهية.
ولضيق المجال ننتخب بعض الأمثلة السريعة التي يستطيع القارئ القياس عليها، فابن الفارض، مثلاً، كان يكثر من ذكر أماكن الفتوحات وخصوصًا الحجازية منها، وربما يعود ذلك إلى مقامه في الأراضي الحجازية طيلة خمسة عشر عامًا. ويتضح ذلك بجلاء في قصيدته:
سائق الأظعان يطوي البيدطي منعمًا عرج على كثبان طي[37]
فمن ينظر إلى هذه القصيدة يجد أنَّ ذكر الأماكن فيها وصل إلى ستة وثلاثين موضعًا، وجميعها تحمل دلالات وتلويحات تتفاعل مع غيرها في البناء الفني للصورة الكلية،
وخصوصية الرمز في الصورة تكمن في تحقيق نوع من التفاعل في السياق العام به، تتجدد علاقات المعنى وتتوالد وبه يتحرك المعنى بقدرة الإيحاء الذي يعوض النقص في الدلالة المعجمية[38].
ونأخذ بعضًا من أبيات هذه القصيدة للدلالة على الرمز بهذه الأماكن:
خففي الوطء، فبالخيف سلمـ ـت على غير فؤادي لم تطى
كان لي قلب بجرعاء الحمـى ضاع مني، هل له رد عـلى
إن ثنى، ناشدتكم، نشدانكــم سجرائي، لي عينة عن عمى
فاعهدوا بطحاء وادي سلــم فهو ما بين كداء وكـــدى
ياسقى الله عقيفًا باللـــوى ورعى ثم فريقًا مــن لؤى[39]
في رحلته إلى الله يناشد العيس أن تخفف الوطأ فإنها لا تدوس إلا على قلوب المحبين
وكنى بالخيف عن مقام الهيبة والجلال في حضرة القرب من الله الحق المتعالي. الجرعاء كناية عن مقام المجاهده في الله وأضافها إلى الحمى أي حمى الحضرة الإلهية. كنى ببطحاء وادي سلم عن عالم الأرواح الذي هو الوادي المقدس... وبطحاؤه موضع قبول الفيض الإلهي...[40]
ونشعر من تحليل النابلسي أنه يحاول إخضاع النص لمفاهيم وقياسات فلسفية قد تعارف عليها الصوفية الكبار في مسألة تأويل النص، إلا أن طبيعة النص - كما نلاحظ - يتحكم فيها فيض نفسي يحيط بها ويتغلغل في ثناياها، ويكفي أن نذكر أن الشاعر كانت تتلبسه حالات خاصة بين الصحو والإغماء، وهذه الحالات كانت عنده تمهيدًا للإبداع.
وكان ابن الخيمي مفرطًا - كأستاذه - في حشد الأماكن الحجازية والبدوية في قصائده، وكأنه أراد لفت انتباه القارئ إلى مقدار ما في داخله من أسرار أراد أن يبثها من خلال هذه الأماكن بالإضافة إلى توفر روح التفصيل والتوضيح لما في داخله من مشاعر. ولا نعدم ذكر الأماكن في أيَّة قصيدة من قصائده، خصوصًا وأن ديوانه، كما أسلفت، معزوفة شوق نحو المحبوب الأعظم، وكل ما يشير إلى حضرته أو يمثل تعينات لجماله المطلق. وهذا ظاهر في قصيدته:
لم توف أشواقي ولا لوعاتــي حق الهوى لكم ولا عبراتي[41]
التي يقول فيها:
لو أن دمعي في الغوير يكون في تلك الديار وغنيت عن دعواتي
دمع على سفح الغوير سفحتـه شوقًا إلى زمن بذي الأثـلات
أيام ماريع الوصال بجفـــوة فيها ولا شمل اللقا بشتــات
وديار منعرج التنبة ما خلــت منهم ولا امتلأت من الحسرات
والأنس روح في الديار وأهلـها فقد انقضى فالكل كالأمــوات
ذاك الزمان هو الذي أصبـوا له وكذا ديار الخيف هن اللاتـي[42]
إنَّ الأماكن الحجازية وما يدور حولها مثل: (الغوير، ذي الاثلات، منعرج الثنية، الخيف) كلها ترمز عنده إلى أماكن الحضرة الإلهية، وتجلي النور المحمدي ومهابط الوحي بالواردات الإلهية، ومن ثم فالبكاء على عتباتها بسبب ما أصابه من الاغتراب وانقطاع الأنس عنه. وما يؤكد الرمز في هذه الأماكن قوله:
ورعى الإله على المصلى حيـرة ما زلت أرعاهم علـى العـلات
قوم على الجمرات من وادي منى نزلوا ومن قلبي على الجمرات
نصبوا علــى ماء النقا أبياتهم وهم معاني الحسن في الأبيات
وتحجبوا عنا بنور جمالهـــم كتحجب المصباح بالمشكاة[43]
فهؤلاء القوم إشارة إلى الذات الإلهية التي بحجب الحسن والنور، ولكنها أرسلت بفيض حسنها على الماديات فصارت انعكاسًا لهذا الجمال المطلق.
أما عفيف الدين التلمساني، وإن كان حريصًا على تجريد الأماكن وتحويلها إلى رموز على مواجيده وأسراره، إلا أنه لم يحشدها في شعره، ولم يثقل بها النص الشعري، ولكن ذكرها وفق ما يقتضيه الموقف النفسي، وهذا راجع إلى أنه موغل في الرمز لا يعطي قيادة لمن أراد اقتناصه من قريب، إلى جانب عدم وضوح التجربة الحجازية في شعره كسابقيه، ولم يكن مغرمًا بذكر تفصيلات التجربة، مما جعل قصائده قصيرة نوعًا ما، كما أسبقت، يركز فيها على دفقات شعورية مركزة، يرسل خلالها الرمز مركزًا أو غير مشتت ولا متفرق الإيحاءات، كقوله:
متى زرتم نجدًا فإني أراكـــم تضوع عليكم نفحة من شذى نجد
أظن حمى ليلى حللتم بربعــه فضاع لكم منه شذى مسحب البرد
عريب لهم عندي رعاية عهدهم وما عندهم لي: نقض عهد ولا عقد[44]
فـ"نجد" ترمز إلى مواطن الحضرة الإلهية، وكذلك "حمى ليلى" أي خدرها ومأمن وجودها، ولذا فهو يشتاق إليهما ويذرف الدمع بل الدم على بعده وفراقه عن الحبيب الكامن فيهما.
ونلاحظ في البيت الثالث ذكر التلمساني للفظ العرب مصغرًا (عريب) وهو لفظ ذكره التلمساني كثيرًا، ويشير به إلى مهد الرسالة المحمدية وما يحتوي عليه من الأماكن المقدسة، مما يجعله مناسبًا للإشارة به إلى الحضرة الإلهية ومكمن الأرواح الطيبة. ومثلما كانت الأماكن العربية مكانًا لتلقي الوحي فإنها أيضًا مكان لتلقي الواردات الإلهية. والعرب بالتالي إشارة إلى الذات الإلهية والمقامات المحمدية، وهذا واضح من تعليق النابلسي على بيتي ابن الفارض في التائية الصغرى:
وعرج بذياك الفريق مبلغــا سلمت عريبًا، ثم عني تحيتي
فلي بين هاتيك الخيام، ضنينة علي بجمعي، سمحه بتشتتي[45]
وقوله "عريبًا" تصغير عرب من العروبة، وهي إشارة إلى المقامات المحمدية المشار إليها في البيت قبله[46].
ويقول التلمساني:
عرب نجد منا قبلتم فريقــا وفريقا بلحظكم تأسرونـــا
مات من هجركم سمير هواكم فاطلبوا اليوم سامرًا تهجرونا[47]
ويؤكد رمزية لفظ العرب ارتباطه الدائم عند التلمساني بالأماكن المقدسة، وما تمثله من إشارة إلى الحضرة الإلهية[48]، وهذا واضح في المثال السابق الذي يعبر فيه عن شوقه إلى الذات الإلهية بل الفناء فيها بالموت الإرادي الذي فقد فيه السمير، ومن ثم يقتبس من الآية القرآنية معنى لسمير جديد معرض للهجر.
ويدعم الصوفية هذا الرمز برمز الأسماء البشرية خصوصًا اسمي (سعد وسعيد) الذي تردد في ثنايا قصائدهم. يقول ابن الفارض:
يا أخت سعد من حبيبي جئتـــي برسالة أديتها بتلطــــــف
فسمعت ما لم تسمعي، ونظرت ما لم تنظري، وعرفت ما لم تعرفي[49]
يعلق النابلسي بقوله:
أخت سعد كناية عن روحه المنفوخة فيه من روح الله، عن أمر الله؛ فكأن روح الله الذي هو أول مخلوق هو السعد المحض الذي لا شقاء معه، وهو روح أرباب العصمة من الأنبياء عليهم السلام. وتنكير سعد للتعظيم، والروح المنفوخة في غيرهم أخت لأنهما صادران عن أمر الله تعالى، وقوله برسالة يريد بالرسالة هنا العلوم الإلهية والمعارف الربانية والحقائق الرحمانية...[50]
فاسم سعد قد تجرد من صفته كاسم يشار به إلى إنسان، وانتقلت منه طبيعته أو بعض متعلقاته، وهي صفة السعد المحض الذي لا شقاء معه لتشير إلى روح الله. ويقول التلمساني:
عيناك إن سلبت نومي بلا سبب فالنهب يا أخت سعد شيمة العرب
وقد سلبت رقاد الناس كلهــم لذاك جفنك كسلان مــن النقب[51]
ويقول:
وصل على رغم الحسود إليك سعدًا يا سعيــد
فدنـــا البعيد ويا هنا المشتاق إذ يدنوا البعيد[52]
إنه ينحي شخص "سعد" جانبًا لأنه نهائي، ويستعير منه صفة "السعد" اللانهائية للإشارة بها إلى عالم المثال. وحدث ذلك عن طريق تجاوز المادة وخلق المعادل الموضوعي بين أمرين جوهريين، وهو أول رمز يكتسب هذه الصفة.
ويقول عبد الغفار الأقصري:
وهم نهاية آمالي ومرتجعـي إليهم آل قصدي وانتهى الطلـب
كرر حديثهم يا سعد في أذني فلست أنسى ولكن هزني الطرب[53]
ويقول محمد بن أحمد بن عبد الرحمن المعروف بالشيخ تاج الدين الكندي المولود في قوص 646 هـ:
يا سعد عرج بالمطى لروضها فبعرفه قد أرشد الظعـان
وارفق بها فلقد غنيت بشوقها عن سوقها لما بدت نعمان[54]
فالأمثلة السابقة ترمز بـ"سعد" إلى الذات الإلهية التي تدلي بحديثها إلى قلوب العارفين الذين وصلوا إلى درجة العرفانية بعد اجتيازهم لمقامات السلوك، ولذلك يأتي هذا الاسم دائمًا مع الظاعنين الراحلين، أو بمعنى آخر المغتربين الذين يفارقون صفاتهم الترابية، ويعرجون إلى ربهم فيركبون مطاياهم ويحدوهم الحادي أو "سعد" الذي يشار به إلى الله لما بين الرمز والمرموز له من عامل مشترك وهو تحقيق السعادة للخلق.
* * *
ث. رموز العبادات:
لم تكن العبادات (الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج) عند الصوفية مجرد شعائر يؤديها المسلم أداء ظاهريًا وكفى، وإنما ينظرون إليها نظرة ذوقية خاصة عمادها الذوق وقوامها التحقيق، حيث تمثل تطهيرًا للقلب من النقائض الكونية والآفات الدنيوية التي تتعلق بها النفس الإنسانية. يقول الجيلي:
أصلي إذا صلى الأنام وإنما صلاتي بأني لاعتزازك خاضع[55]
فالحب لله هو الأساس في عباداتهم التي عاشوا فيها تجربة روحية وإيمانية عالية. ويؤسس ابن عربي باطن الشريعة على أساس أنه انعكاس لباطن الوجود، فكما أن للوجود ظاهرًا أو باطنًا، وكما أن للإنسان كذلك ظاهرًا وباطنًا، فالخطاب الإلهي يتضمن بالضرورة هذين الجانبين: الظاهر والباطن. ومن المنطقي إذن أن يكون للشريعة ظاهر وباطن، فالشريعة تطل من حيث الباطن، وليس من المعقول أن يكون الله سبحانه في خطابه إلى البشر قصد مخاطبة ظاهرهم دون باطنهم[56]. فاحتاج ذلك إلى التأويل للوصول إلى الحقائق المستورة خلف الظاهر.
ونأخذ مثالاً لابن الفارض لبيان حقيقة ذلك. يقول:
أصلي فأشدو حين أتلو بذكرهـا وأطرب في المحراب وهي إمامي
وبالحج إن أحرمت لبيت باسامها وعنها أرى الإمساك فطر صيامي
وشأني بشأني مغرب، وبما جرى جرى وإنتحابي معرب بهيامــي[57]
يوجه الضمير في قوله ذكرها "إلى المحبوبة الحقيقة والحضرة الإلهية"[58]، وفي هذا دلالة على أنه إنما يعيش هذه المناسك بروحه لا بجسده، فالحج رمز للسفر الروحي وأول مراحله الحسية التي رأى فيها "البيت" (العالم) وإدراكه إدراكًا حسيًا. وفي الحج الثاني أدرك البيت وصاحب البيت أي إدراك "الاثنينية" إدراكًا عقليًا، وفرق بين الله والعالم. وفي الحج الثالث أدرك بقلبه شهوده الكل الذي لم يميز فيه بين البيت وصاحب البيت. فمراتب الحج ثلاث: إدراك الحسي فإدراك العقلي فشهود قلبي، أو فردية فثنوية فوحدة مطلقة تنمحي فيها الكثرة العقلية والحسية.
وهذه المرتبة الأخيرة: مرتبة الفناء أو التوحيد الصوفي[59] التي نلمحها – أيضًا – في قول ابن الفارض في نفس المعنى:
وفي حرم من باطني أمن ظاهـري ومن حوله يخشى تخطف جيرتي
ونفسي بصومي من سواي تفـردًا زكت وبفضل الفيض عني زكت
وشفع وجودي في شهودي، ظل في تحادى وترًا في تيقظ غفوتــي
وإسراء سري عن خصوص حقيقة إلي كسيري في عموم الشريعـة[60]
فعبادته عبادة خصوص الخصوص الذين يتطلعون من خلال ظاهر العبادة إلى تزكية باطنهم. يقول الهجويري:
اعلم أن الصلاة عبادة يجد فيها المريدون طريق الحق من البداية إلى النهاية، وتتكشف فيها مقاماتهم[61].
وأما الصوم - كما يذكر ابن الفارض- فهو صوم عما سوى الله أي الخلوة بالله والفناء فيه بالاغتراب عن الخلق وعن نفسه حتى تسمو، فيتمكن من مشاهدة الحق،
فثمرة الجوع المشاهدة؛ لأن المجاهدة قائدته، فالشبع مع المشاهدة خير من الجوع مع المجاهدة؛ لأن المشاهدة معترك الرجال والمجاهدة ملاعب الصبيان، فالشبع بشاهد الحق خير من الجوع بشاهد الخلق[62]،
وبذلك يستطيع الوصول عن طريق أتباعه لخطى الشريعة إلى المعرفة الإلهية التي يرجوها.
ويفرق التلمساني بين نوعين من الصلاة في قوله:
إذا صفت الأقدام منا وأمنا صلاة شهود لا صلاة تحجب[63]
فالصلاة – عنده- ليست صلاة حركات وسكنات، وإنما تنضاف إلى ظواهرها حقائق تجعل منها صلاة شهود لا تحجب بالشكل الظاهر عن حقيقة هذا الفرض، وهي في حقيقتها معراج للوصول إلى الخالق سبحانه.
يقول ابن الخيمي:
يا حسن سجادة المصلى وهو يناجي ذاك الجنابا
مقترنــًا بالسجود منه عند مناجاته اقترابــا
صيرها دونة حجابــا رجاء أن يسمع الجوابا[64]
فالنفس البشرية عند سجودها بين يدي خالقها تعرف حقيقتها، وتذل وتخضع لبارئها، وتجاهد من أجل مفارقة الأغيار، حتى لو كان زخرف السجادة التي تؤدى فوقها الصلاة؛ لأن هذا الزخرف يمثل نوعًا من الحجاب الذي يجب تجاوزه للوصول إلى الحقائق العلوية دون شاغل، فيحظى بالأنس والقرب من المحبوب.
جـ. الخمـر الصوفي:
مثَّل الخمر بابًا كبيرًا من أبواب الشعر العربي، وكان له عمق تاريخي يمتد - كما يقول د. محمد مصطفى هدارة - قبل الشعر الجاهلي،
فالخمر، كما تروي الأساطير القديمة، قد عرفتها الإنسانية منذ نشأتها الأولى، ووصلت في بعض البيئات إلى حد التقديس، حتى أن اليونانيين جعلوا لها إلهًا هو باخوس كما تصوره الأساطير الإغريقية[65].
ولم تأخذ الخمر حقها من الوصف والتعبير الأدبي المتعمق سوى في العصر العباسي، حيث استبدت شهوة الشراب بشعرائه
فجعلتهم أسرى وعبيدًا لها، حتى إنهم في حديثهم عنها يصورونها معشوقة قد عشقوها، وتفانوا في حبها، وقد استطاعت هي أن تأسر قلوبهم وتسخرهم لها[66]
فعبروا عن عواطفهم من خلالها، وربما بثوا بها بعضًا من آرائهم في الحياة، كما حدث في شعر أبي نواس الذي توسع في وصفها ولم يفته شيء من معانيها المعنوية أو الحسية.
وورث المصريون الميراث الفني في وصف الخمر عن السابقين، وصار لهم في ذلك جولات لعب فيها خيال الشعراء، فظهر في شعرهم بعض المعاني الجديدة التي لم تخطر على بال الشعراء السابقين[67]. وكثرت عوامل الاغتراب النفسي والاجتماعي فلاذ كثير من شعراء العصرين الأيوبي والمملوكي إلى الخمر، وشغفوا بوصفها والاستغراق في عالمها هربًا من الواقع. فكما لاذ الصوفية بعالمهم إلى الباطني لاذ أدباء الخمر بعالمهم الحسي، يتفيأون فيه ظلال اللذة، ويجدون في عالمهم الكؤوس والأقداح ما ينسيهم الواقع أو يتلمسون عنده النسيان.
حتى إذا وصلنا إلى شعراء الصوفية نراهم يستلهمون تراث الشعر الخمري بصورته وأخيلته وأساليبه، ولم تستلهم ما حفل به من مجون وإباحية، وإن كان هذا لا ينفي أن بعض الغلاة والإباحيين من فرق الصوفية كالمطاوعة والقلندرية كانوا يعاقرونها في الخفاء.
وهكذا نخلص إلى حقيقتين أساسيتين: الأولى أن للخمريات الصوفية بواكير ترجع إلى النصف الأخير من القرن الثاني الهجري، والثانية أن الصوفية أفادوا من شعر الخمر الذي ازدهر في العصر الأموي وازداد ازدهارًا ونماء في العصر العباسي، وألموا منه في ألفاظهم التوفيقية بمصطلحين يسيطر عليهما طابع التقابل الوجداني، فعندهم أن السكر يقابله الصحو، كما أن البسط يقابله القبض...[68].
وإذا كان الشعراء السابقون وقفوا عند ظاهر الخمر ولم يتعمقوا في بواطنها، فإن شعراء الصوفية لم يقفوا عند السطح وتوغلوا إلى حقيقة السكر والخمر، حيث أعملوا فيهما الخيال ومزجوهما بالذوق الصوفي، وبثوا فيهما مواجيدهم وأذواقهم، حتى صار وصفها ترجمة لحياتهم الروحية ورمزًا للمحبة الإلهية، ولمقدار ما وصلوا إليه من أحوال. فاستندوا إلى مسميات الخمر الحقيقية ومتعلقاتها من السكر والشراب والري والصحو، ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجلي، ونتائج الكشوفات، وبواده الواردات، وأول ذلك الذوق ثم الشرب ثم الري، فصفاء معاملاتهم يوجب لهم أدق المعاني، ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب، ودوام مواصلاتهم يقتضى لهم الري. فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الري صاح، ومن قوى حبه تسرمد شربه وأنشدوا:
عجبت لمن يقول ذكرت ربي فهل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحـب كأسًا بعد كأس فما نفذ الشراب ولا رويت[69]
فإذا كان الصوفي يتبع ميراث السابقين بعراقته وتقاليده، فإنه يتجاوزه ويتجاوز كذلك ظاهر الشريعة الذي يحرم الخمر المادية تحريمًا قاطعًا. ويلجأ الصوفي إلى التأويل لإيجاد أوجه إلتقاء بين جوهر الخمر، وما يحدث للصوفي من نشوة وتغيب أثناء الفناء في الذات الإلهية. فالسكر والغلبة "عبارة صاغها أرباب المعاني للتعبير عن غلبة محبة الحق تعالى، والصحو عبارة عن حصول المراد"[70]. ويعني السكر عند الصوفية أن يغيب عن تمييز الأشياء، ولا يغيب عن الأشياء، وأن لا يميز بين مرافقه وملاذه، وبين أضدادها في مرافقة الحق... والصحو الذي هو عقيب السكر هو أن يميز فيعرف المؤلم من الملذ فيختار المؤلم في موافقة الحق، ولا يشهد الألم بل يجد لذة في المؤلم... وانشدوا لبعض الكبار:
كفاك بأن الصحو أوجد كآبتـي فكيف بحال السكر والسكر أجدر
فحالاك لي حالان صحو وسكرة فلازلت في حالي أصحو وأسكر[71]
وهكذا يكون السكر عند الصوفية مختلفًا عن السكر الناتج عن الخمر المادية في كونه يعقبه الصحو، ولا يعني الصحو هنا مفارقة حالة السكر بصورة تامة، وإنما الترقي إلى حال أرقى هو حال "صفاء العشق والذوق بأحدية الجمع والفرق"[72].
وبهذا تعمق الصوفية في حقيقة الخمر، وأخذوا منها أثرها، وتحولوا به إلى رمز يعبرون به عن حالهم. يقول عبد الحكيم حسان:
والصوفية في كلامهم عن الحب يعمدون في رمزهم إلى جانب آخر هو جانب الخمريات، فهم يتكلمون عن الحب على أنه شراب[73].
وإذا بدأت في تناول الرمز الصوفي بالخمر عند شعراء الصوفية في مصر، نجد أنفسنا بالطبع أمام أبي حفص عمر بن الفارض الذي صوَّر نشوته بالحب الإلهي بنشوة الخمر، فاتخذ نفس لغة شعراء الخمر السابقين بما تحتوي عليه من دنان وسقاة وكؤوس، ولا شيء من ذلك
إنما هو جمال الذات الإلهية التي دلع في قلبه الحب، وكأنما شرب من إناء قدسي رحيقه المسكر فهو لا يني منتشيًا ولا يني منجذبًا، وكأنه في غيبوبة لذيذة توشك أن تسلبه حواسه[74].
يقول ابن الفارض في تائيته الكبرى:
سقتنــي حميا الحب راحة مقلتــي وكأسي محيا من عن الحسن جلـت
فأوهمت صحبي أن شرب شــرابهم به سر سري في انتشائي بنظــرة
وبالحدق استغنيت عن قدحي ومــن شمائلها لا من شمولي نشوتـــي
ففي حان سكري حان شكري لفتيــة بهم تم لي كتم الهوى مع شهــرتي
ولما انقضى صحوي تقاضيت وصلها ولم يغشني في بسطها قبض خشيتي
وأبثثتها ما بي ولم يك حاضـــري رقيب لهـــا حاظ بخلوة جلوتي
وقلت وحالي بالصبابة شـــــاهد ووجدي بهــا ماحي والفقد مثبتي
هبي قبل يفنى الحب منــــي بقية أراك بها لي نظــــرة المتلفت
ومني على سمعي، بلن إن منعـت أن أراك فمن قبلي لغيري لــــذت[75]
يستخدم ابن الفارض نفس ألفاظ الخمر الحقيقية من (شراب وحميا وقدح وشمول وحال وسكر وصحو) ولكنه يلجأ إلى تراسل الحواس، حيث تأخذ عينه صفة كفه التي تسقيه خمر المحبة الإلهية حيث تنعمت في الجمال الإلهي، فسرى أثر الخمر في عروقه وشعر بنشوته، وصارت روحه المحبوبة كأسه الذي يشرب منه، فأهلكه وأفناه حتى أوقع أصحابه في الوهم، لعدم إدراكهم، لأنهم من عشاق الصورة فكأن الجمال شراب، والحب حمياه، وهذا كله موهبة من الله. عندما ذهب صحوه مكنه سكره من المباسطة مع الحق، فأخبره بما أصابه من أثر العشق والهيام بالمحبوبة التي عاهدها بالولاء والإيمان يوم الصحو الميثاقي في عهد الربوبية المأخوذ على الذر.
ونلاحظ أن المقطعة مثقلة بالمصطلحات الصوفية التي اندرجت في السياق فانطبعت عليها روح الرمز مثل: (السكر، الصحو، السر، النشوة، البسط، القبض، الخلوة، الجلوة، الصبابة، الوجد، المحو، الفقد، الإثبات، الفناء، الحضور، الشرب، الوهم)، فكلها مصلحات تشير إلى أحوال شريفة يعيشها الصوفي في تجربة الارتقاء لدرجة وصوله إلى النشوة والسكر، ثم الصحو بعد ذلك.
وهكذا تقترن رمزية الخمر عند ابن الفارض بالحب الإلهي الذي ملك عليه كيانه، وكذلك بالمعرفة والفيوضات الإلهية التي وردت على قلبه، فأعقبت إبداعًا ذا قيمة كان يأتيه في الغالب بعد صحوه من غيبته[76] وسكره بغير مدامة.
والرمزية الخمرية عند ابن الفارض رمزية ميتافيزيقية تصحبها نظرة فلسفية إلى النفس والكون، قبل أن تكون نظرة فنية في الأداء الشعري يتخطى المحسوس وتجرده وتنحو نحو الباطن بكل ما فيه من مجاهل وأعماق
وتخطى المحسوس يتم في الآونة التي تنطوي فيها الذات باطنة في خفايا الروح وزوايا النفس عن ذلك العالم الحقيقي، وتلك نظرة مثالية تحتذي ما كان يحاوله الرمزيون من نقل الإحساس بالعالم الخارجي منعكسًا على صفحة الذات الشاعرة[77].
وقد تجلت موهبة ابن الفارض الفنية، وقدرته على صياغة الرمز الشعري من الخمر المادية، في قصيدته الميمية التي تعد أروع ما كتب من شعر الخمر الصوفي على الإطلاق؛ ففي هذه القصيدة
يبدو ابن الفارض شاعرًا بحق، لا مجرد صوفي يصوِّر مراحل الطريق والفناء والشهود والعروج القدسي كما في قصيدته نظم السلوك. وهو هنا يصنع رمزه الشعري في تصوير بديع، ويقدم عملاً مكتمل البناء. فالقصيدة من مطلعها إلى ختامها في موضوع واحد هو الخمر، والرمز فيها رمز فني لا اصطلاحي قابل للتأويل[78].
ويبدأ ابن الفارض قصيدته بقوله:
شربنا على ذكر الحبيب مدامـــة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرهـا هلال وكم يبدو إذا مزجت نجــم
ولولا شذاها ما اهتديت لحانهـــا ولولا سناها مــا تصورها الوهم
ولم يبق منها الدهر غير حشاشــة كأن خفاها، في صدور النهي كتـم
فإن ذكرت في الحي أصبح أهلــه نشاوى ولا عار عليهم ولا إثــم
ومن بين أحشاء الدنان تصاعـدت ولم يبق منها في الحقيقة إلا اسـم
وإن خطرت يومًا على خاطر امرئ أقامت به الأفراح وارتحل الهـم[79]
من بداية هذه القصيدة لا يستطيع القارئ إلا أن يحكم عليها بأنها في وصف الخمر المادية؛ لما يرى من صفاتها المتبدية من خلال الأبيات. إلا أن القصيدة تبدأ بتصوير الخمر في صورة أسطورية رمزية محملة بمعان وإيحاءات عميقة، حيث يرمز بها إلى المحبة الإلهية بوصفها أزلية قديمة، منزهة عن العلل، مجردة عن حدود الزمان والمكان. ولذلك يرى النابلسي أن هذه القصيدة مبنية على اصطلاح الصوفية؛ فإنهم يذكرون في عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها، أو يريدون بها ما أدار الله تعالى على ألبابهم من المعرفة أو من الشوق والمحبة، والحبيب في عبارته عن حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يريدون ذات الخالق القديم جل وعلا[80].
وهذه الخمر مثل المحبة: قديمة أزلية ظهرت بواسطتها الأشياء وتجلت الحقائق وأشرقت الأكوان
وهي الخمر الأزلية التي شربتها الأرواح المجردة فانتشت، وأخذها السكر واستخفها الطرب قبل أن يخلق العالم[81].
ويؤكد ابن عربي هذا المعنى في قوله:
واشرب سلافة خمرها بخمارها واطرب على غرد هنالك ينشد
وسلافة مــن عهد آدم أخبرت عن جنة المأوى حديثـًا يسند[82]
ويعلِّق على البيتين بقوله: قال تعالى "وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ" (محمد 15)، وصرفه إلى المعاني والمعارف التي يكون عنها السرور والابتهاج والفرح، وإزالة الغموم والتجريد من الكم والكيف والهياكل. وجعل الخمر سلافة... فهي علوم ربانية ومعارف قدسية إلهية تورث ما ذكرناه... هذا ذكر ما جاء به الناطق الفرد المنشد في خطابه في نعت هذه العلوم الخمرية ومرتبتها والتنبيه على أصلها وأصل عطريتها وقدمها[83].
وكون الخمر الإلهية تحمل علومًا خاصة، فهذا يسوغ لنا قبول أبيات ابن الفارض على وجهها الرمزي، حيث بثَّ فيها علومًا ومواجيد خمرية، فقد شرب هو والسالكون خمرة، والمعنى بها هنا شراب المحبة الإلهية الناشئة عن شهود آثار الأسماء الجمالية للحضرة العلية، فإنها توجب السكرة والغيبة بالكلية عن جميع الأعي