يتنامى الحديث اليوم عن تطبيق الشريعة الإسلاميّة في البلدان التي شهدت حراكاً سياسيّاً ؛ وتحوّلاتٍ أيدَلِيَّةً ؛ أوصلت الجماعات الإسلاميّة إلى مفاصل السلطة ومواقع القرار !
ولا يخفى - على أيّ مراقبٍ - الواقع الانقساميّ لتلك الجماعات في تمثيلها للإسلام ؛ حتّى إنّ مقولة بعض المراقبين بأنّنا أمام إسلاماتٍ متعدّدةٍ ، وليس إسلاماً واحداً ؛ تكاد أن تكون مقولةً حقّةً !!
قديماً رفع الخوارج شعاراً مقارباً لشعار اليوم ؛ يومها واجهوا عليّاً به قائلين : ( إن الحكم إلاّ لله ) !
وكان جواب عليّ حاسماً بقوله : " الحكم لله ، وفى الأرض حكّام ، ولكنّهم يقولون : لَا إمارةَ ! ولا بدّ للنّاس من إمارةٍ يعمل فيها المؤمن ؛ ويستمتع فيها الفاجر والكافر ؛ ويبلغ الله فيها الأجل "
لقد أوضح عليّ بن أبي طالب - وهو هو - النهجةَ اللآحبةَ في تحديد المفاهيم تحديداً نهائيّاً ؛
يُعيدُ وضعَ الهرم على قاعدته !!
إنّها إذن مشكلة المفاهيم في الفكر السياسيّ الإسلاميّ ؛ كما هي مشكلة المصطلحات في الفقه اللسانيّ العربيّ !!
وفي شعار اليوم ملمح قويّ الشَبَهِ بشعار الخوارج !
يريدون تطبيق الشريعة !
لكنْ ؛ عن أيّة شريعة يتكلّمون ؟
وهل الشريعة هنا مرادفةً للدين ؟
وما علاقة الشريعة بالفقه وهما بالدين ؟
وأيُّ المدارس الفقهية يريدون ؟
وعلى أيّ منهجٍ تأصيليّ سيسيرون ؟
وهل مصادر الاستمداد هي الأدلّة الإجماليّة الأربعة ؟
وماذا عن لواحقها ؟
وهل سيعتمد التفسير أم التأويل ؟
وهل ستعتمد كلُّ أنواع الدِلالات ؟
ومن أين ستستقى القواعد الكليّة ؟
وما هي مبادئ التأصيل ، وطرائق التفريع ؟
وهل من عوائق زمكانيّة ؟
وماذا عن النُظُم السياسيّة ؟
بل ماذا عن مفاهيم المعجم السياسيّ المابعد حداثويّ ؟
بل ماذا عن مفاهيم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا ؟
لعلّ التساؤلات لا تنتهي في أسطرٍ قلائلَ ؛ لكن التحدّي كلّ التحدّي في وضوح الأجوبة وصدقها ؛ من دون مواربةٍ أو مراوغةٍ . ومن دون التذاكي في الأساليب البراغماتيّة ، والألاعيب الدونكيشوتيّة !!
يجب على رافعي شعار الشرعيّة والشريعة ؛ أن يقدّموا للجمهور كلّ الجمهور ؛ أجوبتهم عن هاتيك التساؤلات المحقّة ؛ تلافياً لمزيدٍ من الشرخ العموديّ في البُنَى المجتمعيّةِ ؛ إذا كانوا صادقين
حقّاً !!
إنّ التاريخ السياسيّ للدولة الدينيّة ، أو للدولة التي تعتمد الدين قاعدة بناءٍ ؛ لا يَعِدُ إلاّ بألوانٍ من القمع والقتل والاضطهاد ومصادرة الحريّات !
إنّ حركة التاريخ لا تُخطئ !!
فليس غريباً أنْ يستبدل توماسو كامبانيلاّ مدينةَ الشمسِ بمدينةِ الله !
وليس غريباً أنْ يعترض جلال الدين الروميّ على ترشيح القطب لرئاسة الدنيا !!
فأيّ نفع للهِ في فردوس أرضيّ ؟
وأيّ دنيا تقوم على رقدة القطب ؟
الدنيا تُحكم بالدنيا !!
والناس في الدنيا على دين ملوكهم وزعمائهم ، لا على دين أوليائهم وأنبيائهم !!
الدين ظاهرة طبيعية بسيطة ساذجة !
ويقع الدين على الوسط الذهبيّ بين الاتجاه الموجِب نحو الفلسفة ، وبين الاتجاه السالب نحو الإيديولوجيا !!
حيث تقف الفلسفة المتعالية في خطابها النُخْبويّ ؛ على الطرف القصيّ المقابل للإيديولوجيا في خطابها الشَعْبويّ !!
إنّ جعل الشريعة قاعدةً للدنيا ؛ يُحوّل الدين إلى إيديولوجية استلابٍ واغترابٍ ، وضررُ الشرع ممّن ينصره لا بطريقهِ ، أكثرُ من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقه !!!
وإنّ من الواجب الحتميّ على الجماعات الإسلاميّة ، هنا وهناك ، قبل مسارقتها ومسارعتها إلى تغيير" أنظمة الحكم " : أنْ تبين للجميع بياناً شافياً ( المنهج التأصيليّ ) لما هي بصدده من حكم الناس بسيف الشرعيّة والشريعة !!!
ففي " صحيح مسلم " من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه مرفوعاً ؛ وفيه :"وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ ؛ فأرادوك أنْ تُنزلهم على حكم الله ؛ فلا تُنزلهم على حكم الله ! ولكنْ أنزلهم على حكمكَ ؛ فإنّك لا تدري أتُصيب حكم الله فيهم أم لا " !!
والمعنى من الحديث المارّ : أن لا يقع اللوم على الشريعة بوصفها أحكام الله ؛ حين يجد الناس أنفسهم في وضع مأساويّ ؛ من جرّاءِ ما أُفرِغ فيها من قوالب ومقالب ، وأقوال رجال وطحالب ؛
يُعبّر عن جميعها بعنوان الشريعة وأحكام الله تعالى !!!
روى أصحاب السِيَر عن عمر ؛ وقد جلس إليه كاتبه وهو يقول : " هذا ما أَرَى اللهُ أميرَ المؤمنين عمر ! فقال : لا تَقُلْ هكذا ، ولكنْ قُلْ : هذا ما رأى أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب " !!!
حين لا يبدأ الإسلاميون بتوطئة الأجوبة تأصيلاً وتفريعاً ؛ قبل القبض على السلطة ، والتسلّط على الخلق باسم خالقهم . فإنّ مَثَلَهم حينئذٍ كمَثَلِ عقيل بن عُلَّفة ، حين امتحنه الخليفة عمر بن عبد العزيز في شئٍ من القرآن ؛ فقرأ : ( فمن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره ومن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ) فقال له عمر : ألمْ أقُلْ لكَ إِنَّكَ لا تُحسن أنْ تقرأ ؛ لأنّ الله تعالى قدّم الخير ، وأنت قدّمتَ الشرّ ؛ فقال عقيل :
خُذا أنفَ هَرْشَى أو قَفاها فإنّما
كلا جانبيْ هَرْشَى لهنّ طريقُ
فجعل القوم يضحكون من عجرفته !!!
ولئلاّ نصير ضُحَكَة بين الأمم ، ونظلّ مختلفين ومكابرين ومتعجرفين ؛ فنغدو جميعاً عَقيلَ بنَ عُلَّفة ، لا نأخذ بتصويبٍ ؛ بل نجاهم ونجاقم في تبرير الخطأ ، وتبريز الخطل !!!
وإنّها حقّاً لإحدى الكُبر !!!