مجلة التسامح - نحو خطاب إسلامي متوازن
وضع البروفسور عبد الله النعيم في كتابه الشجاع والمبدع (نحو إصلاح إسلامي أسلوبا جريئا قد يستطيع من خلاله رجل القانون إعادة بناء مجالات رئيسة من القانون الإسلامي. وناقش في البابين السادس والثامن مسألة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين ويقول بأن التقليد العقلي للمفكرين المسلمين في عصر ما قبل المحدثين الذين ساندوا بشكل متحد لحد ما سياسة تسامح محدود تجاه غير المسلمين. وتقترح هذه المقالة، على النقيض من ذلك، تسامحا كاملا (وبالتالي مساواة كاملة أمام القانون)، مبادئ تستطيع أن تجد جذورا ثيولوجية راسخة في التقليد الإسلامي لعصر ما قبل الحداثة. ودعني أوضح منذ البداية بأنني لست ثيولوجيا مسلما، ويعود الأمر بالطبع إلى المسلمين ليقروا ما إذا كانت مثل هذه الاقتراحات تمثل نظرة قد يرغبون من خلالها النظر إلى معنى الإسلام. ومن الناحية النظرية، فالإسلام هو ما يقول المسلمون أنه كذلك، وفرضيا الإسلام هو أي شيء يعتقد المسلم أنه يجب أن يكون. ويصدق الشيء نفسه على أي نظام للإيمان(1).
ويتعين علي أن أوضح بأنني لا أناقش درجة التسامح الذي أظهرته المجتمعات الإسلامية واقعيا على مر التاريخ.، وهو موضوع تمت مناقشته في مكان آخر. وعلى أي حال ينبغي علينا أن نتذكر بأن المسلمين كانوا بشكل عام أكثر تسامحا من المسيحيين في العصور السابقة للعالم الحديث، وأعتقد أن سجل التسامح هذا يعكس جزئيا روح النصوص التي سأقتطفها من المفكرين المسلمين وأوردها بأدناه. وفي الممارسة - وعلى الرغم من موقف القانون الإسلامي غير المتسامح في بعض الأحيان تجاه غير الموحدين الذين ليس لهم كتاب منزل - الأمر الذي أتاح في الغالب فرصة الشك لدى معظم أنظمة الإيمان التي يواجهونها. واجه المسلمون في بداية الفتوحات، أول ما واجهوا الهندوس، في السند، أعلن القائد الإسلامي بأن الهندوس (أهل كتاب) وعليه فهو دين مجاز، وظل هذا القرار محترما على العموم على مدى العصور(2).
وبالمثل وكما ذكر القرآن الكريم اعتقاد السبئيين بصفته أحد أقدم الديانات المنزلة. مال المسلمون لاستخدام مصطلح السبئيين بحرية للأديان غير القابلة للتصنيف، كما فعلوا بالنسبة لديانة الروم الإغريق (التي عرفوا عنها فقط من خلال النصوص) وكما فعلوا أيضا بالنسبة لعبدة الكواكب من أهل حران بلد في بلاد ما بين النهرين في قلب العالم الإسلامي.
أظهر المسلمون أيضا درجة معتدلة من التسامح نحو الملحدين الذين لم يعبروا علنا عن آراء إلحادية. وبعد مرور قرن على التمرد الضاري ضد الحكومة المركزية الإسلامية من قبل أتباع بابك في شمال غرب إيران الذي قد تم إخماده، أبدى المؤرخ متعدد الثقافة المسعودي، بينما كان يسافر عبر هذه المنطقة، اهتمامه في جناح انتيرفي خصوصا بشأن معتقدات البعض منهم، ولم يكن لديه مشكلة في الاتصال بهم، على الرغم من تمردهم السابق، و معتقداتهم الثنائية ودفاعهم المفترض عن إعادة توزيع الأملاك القسري(3). ونجد في بعض الأحيان أن هؤلاء الذين رفضوا الدين وجدوا التسامح. ووفقا لرواية معروفة) عندما لام شيعي ابن أبي العوجا على كفره، اعترض الكافر قائلا بأنه لا يستحق مثل هذه المعاملة إذ أن قائداً لائميه الإمام جعفر الذي كان مصدر إرشاد موثوق لهذا الشيعي سمح لابن أبي العوجا لكي يحضر ويناقش مسائل الإيمان معه وهو إمام في الحرم المكي)(4).
نلاحظ أن التسامح في الأمثلة التي سقناها بأعلاه هي من النوع الذي نجده في الأجزاء الأكثر تفتحا من العالم السابق للعالم الحديث، الذي سمح فيه للأقليات بالعيش بسلام وطمأنينة وبدرجة من الاحترام، و -غالبا- بدرجة معينة من الالتزام تجاه الغالبية. وعندما نتحول على أي حال، لنجد ثيولوجيا التسامح كاملة غير مشروطة، نجد أيضا توفر مادة غزيرة لمثل هذه النظرية في التقاليد الإسلامية السابقة للحداثة. ولكن– وعلى حد معرفتي– لم توجد هنالك محاولة نظامية لبناء ثيولوجيا للموضوع (أكثر من وجود محاولة يهودية أو مسيحية سابقة للحداثة لفعل ذلك. ويتعين علينا أن نضع في أذهاننا وكما أكد على ذلك الدكتور النعيم– بأن العديد من المسلمين اعتقدوا بأن الآية القرآنية عن الجهاد قد نسخت معظم الآيات القرآنية الأخرى مما يشير إلى ثيولوجيا التسامح.
إن المبدأ الأول في المواد الإسلامية التي قد تدعم ثيولوجيا لتسامح أكثر عمومية هو مبدأ اختلاف الاعتقاد الذي يريده الله تعالى. ومن بين الآيات القرآنية الكريمة التي تعبر عن هذا هي الآية رقم 99 من سورة يونس ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ ويوضح تفسير الجلالين التأكيد المركزي للآية بجلاء بالقول (هل ستجبر الناس لفعل ما لا يطلبه الله تعالى منهم؟ وبمد هذا المبدأ يرى بعض المفكرين المسلمين في هذا الاختلاف في الاعتقاد فرصة لكل مجتمع لديه معتقد بما فيهم المسلمين أنفسهم للتعلم من المجتمعات الأخرى. ويكتب المفكر الصوفي المهم جدا عين القضاة الهمذاني المتوفى عام 1125 ميلادي, في كتابه (تمهيدات):
(يا عزيزي إن كنت ترى في المسيح ما رآه المسيحيون فكن مسيحيا. وإن كنت ترى في موسى ما يراه اليهود فكن يهوديا. ووراء ذلك إن كنت ترى في الوثنية ما رآه عبدة الأصنام فكن عابد أصنام. إن الفرق الاثنتين والسبعين ما هي إلا محطات على الطريق إلى الله. ألم يتسن لك أن تسمـع كلمات (الصوفي الشهير) أبو سعيد أبي الخير عندما جاء بحضور راهب مجوسي: (هل يوجد شيء في الوقت الحاضر في ديانتكم لا نعرفه الآن في ديننا؟)(6).
وهنالك مبدأ آخر ورد بيانه بوضوح في القرآن الكريم وهو أن الحكم والعقاب على الاعتقاد الخاطئ يجب أن يترك لله وحده، وهذا مناظر للنص الإنجيلي الذي يقول: (الانتقام لي، يقول الرب) ونقرأ في نهاية الآية الكريمة ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾(125النحل) ويقول المفسر المرموق البيضاوي بأن هذه الآية تعني (أن البلاغ والدعوة إلى الإسلام هي الأشياء اللازمة عليكم)(7).
إن هذا المبدأ القائل بأن الحكم والعقاب بيد الله وحده ذا صلة واضحة بالمبدأ السابق القائل بأن تعدد العقائد إرادة إلهية، وفي آية أخرى يقول تعالى ﴿ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء﴾(البقرة272) ويبدو هنا جليا أن الهدى من الله تعالى وبإرادته وأنه يعطي الأفضلية لأناس معينين دون الآخرين. تفسير البيضاوي(8), ونجد في تفسير الجلالين ليس لزاما عليك أن تهدي الناس لدخول الإسلام، فقط عليك البلاغ وهو إلزام عليك، وتواصل الآية الكريمة للسماح بالكرم غير المشروط لغير المسلمين ﴿وما تنفقوا من خير فلأنفسكم﴾(البقرة272) وفي تفسير الجلالين (أنفقوا ابتغاء وجه الله)(9).
وهنالك سبب آخر لترك الحكم إلى الله وحده ألا وهو الإيمان العميق القوي المخفي تحت أشكال عديدة من السلوك، والتي قد تبدو مناقضة للتقليد الديني الصحيح، وهو موقف للعبادة الحقة المقبولة كليا عند الله تعالى ونجد في ملحمة جلال الدين الرومي بموضوع التقوى في الإسلام قصة رد فعل النبي موسى عليه السلام على الراعي الذي يبدو أنه تصور الله على شكل راع:
شاهد موسى راعيا في الطريق، كان يقول، يا رب، يا من يختار (من يريد).
أين أنت، لعلي أصبح خادمك وأخيط حذاءك وأمشط شعرك؟
لعلي أغسل ملابسك وأقتل قملك، وآتي لك بالحليب، يا من تستحق العبادة.
ارتعب موسى:
كان الراعي يتحدث بكلمات بلهاء بهذه الطريقة. قال موسى، (يا أيها الرجل، لمن توجه تلك الكلمات؟ أجاب إلى ذاك الذي خلقنا، خالق هذه السموات والأرض)
قال موسى: انتبه! لقد انزلقت إلى الوراء، وحقا إنك لم تعد مسلما، لقد أصبحت كافرا.
ما هذا الهذيان؟ ما هذا القدح والشتم؟ ضع شيئا من القطن في فمك!
إن الرائحة الكريهة لشتيمتك قد جعلت العالم (كله) منتنا: لقد مزقت شتيمتك ثوب حرير الدين إلى قطع).
وبعد هذا الخطاب الطويل الذي يدين الراعي، وبّخ الله موسى: جاء تنزيل من الله على موسى: (لقد فصلت عبدي عني. هل جئت (كَنَبيّ) لتوحد أم جئت لتقطع؟
وبقدر استطاعتك، لا تضع قدما على (الطريق الذي يقود إلى) الفصل: ومن بين كل الأشياء فإن أبغض شيء إليّ الطلاق.
لقد وهبت كل إنسان طريقة (خاصة) للتصرف: لقد وهبت لكل شخص شكلا (خاصا) للتعبير.
فالبنسبة له فإنه يستحق الثناء وبالنسبة لك إنك تستحق اللوم: بالنسبة له شهد وبالنسبة لك سُم.
أنا مستقل بكل الطهارة والخَبث، بكل الكسل وبكل الرشاقة (في عبادتي) لم أقـض (العبـادة الإلهية) كي أحقق الفائدة، كلا، ولكن كي أحقق العطف لعبادي.
اصطلاح الهند عند الهندوس يستحق الثناء، ولدى شعب السند فإن اصطلاح السند يستحق الثناء.
إنني لا أطهر بتمجيدهم (لي)، لكنهم هم الذين يتطهرون ويصبحون أنقياء طاهرين.
لا أنظر إلى اللسان والكلام، إنما أنظر إلى الباطن، إلى (النفس) وحالة (الشعور).
أتفرّس في القلب (لكي أرى) إن كان متواضعا، حتى وإن كانت الكلمات التي نطقت غير متواضعة. لأن القلب هو الجوهر، والكلام هو الصدفة فقط.، وعليه فإن الصدفة تابع، بينما الجوهر هو الشيء (الصحيح).
كم من مثل هذه العبارات والمفاهيم والاستعارات؟ أريد أرواحا متقدة، مشتعلة (بالعواطف): وتصبح ودودة لهذا الاشتعال!
أشعلوا نار الحب في أرواحكم، أكبتوا الفكر والتعبير كليا.
يا موسى، إن الذين يعرفون الخلاف هم من نوع واحد، أما الذين تـحـترق أرواحهم فهم من نوع آخر(10).
ونرى أيضا في هذا النص نتيجة منطقية للمبدأ القائل بأن الاعتقاد الخاطئ الظاهر يعاقب عليه الله وحده ولا يتم تصحيحه بالقسر والإجبار. فعبادة الله إن لم تكن تتم بحرية، تكون نوعا من المقايضة تفترض بأن الله يمجد بواسطة الخضوع البشري.
وهنالك نتيجة منطقية أخرى لصوفي مثل جلال الدين وهي الاعتقاد بأن الإيمان العميق يغير تركيز الإنسان بحيث أن مثل هذا الإنسان قد ينظر إلى التعصب على أنه ملحق لأشياء في هذا العالم لا يمكن التفكير به روحيا. ويكتب قائلا:
الفاكهة غير الناضجة فقط هي التي تمسك بالغصن بقوة، لأن هذه الفاكهة قبل نضجها لا تكون جاهزة للقصر، وعندما تنضج وتصبح حلوة تسقط وتذهب في طريقها.
الإمساك بإحكام (يعني تبني تفسيرات قاسية للأشياء) وأن تكون متعصبا يعني عدم النضج. وفقط ما دمت جنينا تكون مهمتك شرب الدم(11).
أما المبدأ التالي (وهو ذا صلة جزئية) فهو مبدأ بناء ثيولوجيا التسامح وهو يقوم على الاحترام المتبادل بين المجتمعات البشرية المؤمنة وجاء في الآية القرآنية الكريمة (108من سورة الأنعام) ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون﴾ وجاء في تفسير الجلالين أن (من دون الله تعني الأصنام)، ومعنى الوثنية بالنسبة لكثير من المسلمين ليس فقط عبادة الصور المنحوتة، ولكن أيضا عبادة الأفكار الخاطئة التي أصبحت هدفا لحب التطرف. ويواصل نفس التفسير القول: (زينا لكل أمة) تعني (كل من الجيد والرديء السلوك الديني زين لهم من قبل الله -عز وجل- وعليه فهم ينفـذون هـذا السلوك).
ونلاحظ هنا أن الاحترام المتبادل الذي لا يتصل فقط برغبة المسلمين بعدم الافتراء على دينهم، ولكن أيضا بمبدأ أن الحكم والعقاب لله وحده حيث أن الله وحده يعلم السبب ويعلم الحث على السلوك غير الإسلامي.
إن النصوص التي تدعم أهمية التبادلية بين الأشخاص والجماعات في التغاضي عن الاعتقاد أو السلوك الخاطئ عديدة، وفي بعض الأحيان تفهم التبادلية على أنها مسألة ثلاثية تتضمن الله، وعلى سبيل المثال، جاء في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البيهقي: (من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة)(12).
وقد لخص الشاعر الفارسي الموهوب السعدي الذي عاش في القرن الثالث عشر العديد من أفكار التبادلية في قصيدة مشهورة عنّف فيها درويشا ملكا ظالما:
أبناء آدم أوصال بعضهم البعض
خلقوا من مادة واحدة
وعندما يتألم أحدهم
لا يجد الأعضاء الآخرين الراحة
عليه، فإن الذين لا يشعرون بآلام الآخرين
لا يستحقون أن يُسمُّون بشرا(13)
تنبع التبادلية البشرية من الفهم القائل أن الجنس البشري جسم واحد، ويفقد طبيعته البشرية فقط عندما يؤذي أعضاءه بعضهم البعض.
وعليه، فإن المبدأ الأعمق تجذرا في الفكر الإسلامي الذي يدعم ثيولوجيا التسامح هو الإيمان في دين طبيعي، فطري في جميع البشر، والطيبة الطبيعية للبشر الناتجة عنه. والبرهان هو الآية الكريمة رقم(30 من سورة الروم) ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها﴾.
يشرح المفسر البيضاوي، التفسيرات المختلفة بـ: (الأمثلة التي ضربها الله تعالى والتي خلق على أساسها البشر، (بما في ذلك التفسير) يقال: إنه يمكن الإشارة إلى العهد الذي قطعه سيدنا آدم وذريته. (قطع هذا العهد في مشهد ينظر إليه المسلمون في سائر أرجاء العالم بأنه مركزي بالنسبة للتاريخ الأخلاقي للبشرية، لأن بذرة كل بشر المستقبل وجدت من صلب آدم وسألها الله: (ألست بربكم)؟ وأجاب كل بشر على هذا السؤال (نعم بكل تأكيد) ميثاق أخلاقي يقر ربوبية الله تقرر بهذا الاعتراف، و كما رأينا فإن بعض المفسرين يربطون الغريزة الدينية الفطرية النقية لدى البشر بهذا المشهد. وهنالك نص قرآني جميل يعتبر برهانا على الإيمان بالطيبة الطبيعية لكل الأشياء، نجده في (سورة الرعد الآية 15): ﴿ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال﴾ وهذا يعني أن الأشياء سريعة الزوال تعبد الله تعالى.
تصل العبارة الأخيرة موضوع هذا المقال بالفكرة التي تبدو مهملة بشكل كبير، ولم يتم التطرق إليها هنا، وهي تتعلق بثيولوجيا إسلامية لاحترام العالم الطبيعي بأسره. ويقول الإمام البخاري في كتابه الأدب المفرد:
(سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما هي أحب الأديان إلى الله تعالى؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (الحنفية السمحة)(14).
وبالنسبة لي فإن هذا النص يعتبر دليلا آخر على أن هنالك رأياً مهماً في الفكر الإسلامي التقليدي يقول بأن لدى كل البشر ديناً (طبيعياً) ولد في أنموذج روحي وأخلاقي وضعه الله في نفوسهم، وعلى أساسه يتعين علينا أن نفترض الطيبة الفطرية في إخواننا البشر.
ومن المثير للاهتمام ما أورده الإمام البخاري في صحيحه، وهو مرجع في الحديث لدى أهل السنة، من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كل امرئ يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)(15). وبينما ترى غالبية المسلمين بأن (الفطرة) الكلمة التي وردت في الآية الكريمة أعلاه تعني (الإسلام) ترى أقلية ذات شأن أنها تعني (بداية بني البشر) دين فطري مطبوع في أنفس كل البشر بشكل يتعذر محوه. أو بمعنى أنه امتداد للإسلام كما يعرَّف أحيانا من قبل المسلمين ومؤلفي الفترة الكلاسيكية.
إن قبول مثل هذا الدين الطبيعي والطيبة الطبيعية الناتجة عنه لدى بني البشر تجعل كل المبادئ التي ذكرناها بأعلاه، والاختلافات التي أرادها الله في المعتقدات، تعليق الحكم، وغير ذلك، متماسكة عقليا بشكل أكبر ومتجذرة في مجمل الآراء الثيولوجية في الإسلام، حيث أن فرضية الطيبة الفطرية تجعل من الطبيعي قبول الآخرين للحقيقة وإسداء التسامح التام لهم.
وبالنسبة لي كمؤرخ بدا لي دائما أن التسامح في الغرب ظهر بعد حرب الأديان في القرن السابع عشر ليس لأن الثيولوجيا المسيحية أقنعت مقاتلي شرور عدم التسامح ولكن لأن عدم التسامح بدا على شفير تمزيق المجتمع وكان باهظ الكلفة، واستغرق الأمر أجيالا قبل أن نرى نظريات متطورة للتسامح مثل ما نجد لدى لوك، دون أن نأتي على ذكر أشكال التسامح المؤسسة مثل ما نجد في القرن التاسع عشر مع توسع الامتيازات دون اختبار المعتقد الديني. ويبدو لي أيضا أن هنالك على الأقل جذران للتسامح في التقليد الاجتماعي الغربي. الأول هو الإقطاعية، بسبب أنني أؤمن بشدة بأن الرأي الإقطاعي للإنسان كرابط للحقوق والمؤسسات كان أنموذجا مكن بعض المجتمعات الأوروبية تدريجيا وبشكل غير متواصل من توسيع هذه الحقوق والالتزامات لتصل جميع أفراد المجتمع السياسي دون إغفال حقوق الأقليات. وهنالك مصدر آخر وهو فكرة المواطنة التي ولدت في التنور وجيء بها إلى الواجهة بواسطة الثورة الفرنسية، التي فهمت فيها الإرادة العامة بأنه يتم تقريرها بالمشاركة العامة بالمجتمع ومن ثم استحدثت أفكار المواطنة المعاصرة.
لم تكن التقاليد الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية دائما ولا ضرورة لأن تكون مماثلة لنظيراتها في الغرب. ويتعين علينا أن نضع في أذهاننا بأن المسلمين يشعرون بالانزعاج المبرر بأن الإسلام قد أصبح المثال البارز للدين غير المتسامح في أذهان الكثير من الأوروبيين. قد يقرأ بعض المسلمين هذا المقال حتى الآن كمحاولة أخرى للقول: (يجب أن يكون المسلمون أكثر تسامحا)، ولكن المؤلف على النقيض من ذلك يأمل بأن تزود المقالة المسلمين والمعجبين بالإسلام– سواء كانوا يناصرون التسامح الكامل أم لا، للقول: (إن خيار التسامح الكامل موجود في التقليد الإسلامي منـذ زمـن طويل).
هنالك سابقات تاريخية للمواطنة الكاملة من طرف غير المسلمين. تعبير قوي لمسؤولية الحكومة تجاه المحكومين، بغض النظر عن معتقداتهم نجده في الرسالة المشهورة والتي غالبا ما تقتبس من رسالة يقال أن سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وجهها إلى مالك بن الحارث الأشتر عند تعيينه من قبله واليا على مصر:
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وأن الناس ينظرون في أمورك مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاية قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح فأملك هواك وشُح بنفسك عما يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت, وأشعر قلبك الرحمة والمحبة واللطف، ولا تكونن عليهم سَبُعا ضارياً فإنهم صنفان؛ إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلق، يفرط منهم الزلل وتَعرُض لهم العلل، ويُؤتى على أيديهم –أي تأتي السيئات على أيديهم– في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، وولي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم –أي طلب منك أن تكفيهم أمرهم وتدبر مصالحهم– وابتلاك بهم.
إن هذا الاحترام العالمي للمحكومين حتى لو كانوا من غير ملتك فهم (نظراؤك في الخلق) شرحه الإمام علي -كرم الله وجهه- ليمتد إلى أمور المصريين قبل القانون الإسلامي يقول:
(ولا تنقضن سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلح عليها الناس، ولا تحدث سنَّة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الفضل لمن سنَّها والوزر بما نقضت منها).
وفي الوقت الراهن ومع إعادة انبعاث المجتمع المدني في الكثير من المجتمعات الإسلامية والمطلب المصاحب لها بمساواة في المواطنة وحقوق متكافئة، يبدو من المحتمل بأن بعض القواعد الثيولوجية للتسامح سوف تتطور. وآمل أن يكون هذا المقال قد بين لدى القائمين على تطوير هذه الثيولوجيا مادة غزيرة.
*********************
الهوامش:
*) أكاديمي أمريكي، جامعة هارفرد.
1- غير المسلمين في المجتمع الإسلامي: يوسف القرضاوي، (القاهرة1977م).
2- واي فريدمان (محمد بن القاسم) الموسوعة الإسلامية، الطبعة الثانية، (ليدن1991م).
3- المسعودي (باريس 1896م).
4- جي فايدا في مقالته ابن أبي العوجا: في الموسوعة الغسلامية الطبعة الثانية (ليدن : 1971م).
5- تفسير جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي.
6- انظر: مصنفات عين القضاة الهمداني (طهران 1962م).
7- أنوار التنزيل، فليشر.
8-Ibid,I page 138
9- سورة البقرة: 272.
10- المثنوي لجلال الدين الرومي، ترجمة وتحرير: رينولد، نيكلسون (لندن : 1926م).
11-Ibid , طبعة رينولد أ. نيكولسون (لندن 1929م) (الترجمة بواسطة كاتب المقال).
12- البيهقي، شعب الإيمان.
13- جولستان – جون بلاتس (لندن 1874م).
14- الآية 108 من سورة الأنعام.
15- محمد بن إسماعيل البخاري– الأدب المفرد (بيروت).