السياسة الشرعية بين قراءتين

السياسة الشرعية بين قراءتين
http://www.assabeel.net/studies-and-essays/assabeel-essayists/77447/


alt
بسام ناصر

ولوج الإسلاميين إلى عالم السياسة من أوسع أبوابها وانخراطهم في شؤونها، وخصوصا بعد دخول سلفيي مصر إلى ميادينها، فتح المجال واسعا للحديث عن السياسة الشرعية، وكيف سيكون تعاطي الإسلاميين لقضاياها واشتغالهم بشؤونها، وهم الذين يتقيّدون بقراءة دينية تأويلية، تحوم حول الالتزام بحرفية النص الديني، المتقيد بفهم سلف الأمة والساعي إلى إلحاق الوقائع المعاصرة بنظائرها ومثيلاتها السابقة إن وجدت، من أجل إصدار أحكام شرعية للمستجدات المعاصرة.
لكن مما يتفق عليه الجميع أنّ كثيرا من قضايا العمل السياسي، ومسائله المعاصرة، ووسائله الحديثة هي من المستجدات التي لا يوجد لها نظائر في التراث الإسلامي الفقهي على الصعيدين النظري والعملي، مما يوجب على مشايخ الجماعات الإسلامية وعلمائها التصدي لإصدار الأحكام الشرعية لتلك الوقائع والمستجدات، وهذا هو الاجتهاد الحقيقي الذي يظهر أصالة العلم الشرعي، ويكشف عن وجود علماء فقهاء قادرين على الاجتهاد لإيجاد أحكام ورؤى شرعية تتكافأ مع حجم تلك الوقائع والحوادث المستجدة.
يحسن بالفقيه أمام المستجدات الحادثة، وفي سياق بحثه عن شرعيتها ومدى مطابقتها للشرع، أن ينظر في الأدلة الشرعية التي تسند شرعيتها بأيّ وجه من وجوه الدلالة، وطرق الاستدلال المعتبرة عند الأصوليين، فإن عُدمت الأدلة الشرعية بخصوص تلك الوقائع والمستجدات والحوادث اتجه إلى إلحاقها بالمصالح المرسلة، إن لم يتوفر في أدلة الشرع ما يشهد لها بالاعتبار أو الإلغاء، فإذا ما رأى أنّها تحقق مصالح العباد الدنيوية والآخروية، وأنّها تتوافق مع مقاصد الشريعة وغاياتها، وأنّها لا تتعارض مع الأدلة والأصول الشرعية، جاء اجتهاده الشرعي بالموافقة عليها وإصدار الآراء والفتاوى بشرعيتها.
لكن مما قد يتعارض مع ذلك المسلك في الاجتهاد والاستدلال أن يقف فقيه آخر ليقول بأنّ السياسة وسائر شؤونها المستجدة والحادثة ينبغي أن تكون موافقة للشرع، بمعنى أن تكون مما نطق به الشرع، حيث تنص بعض الرؤى الدينية على أنّ وسائل الدعوة وطرقها توقيفية، بمعنى أنّها يجب أن تكون مما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا ينبغي أن تخرج عن ذلك في أيّ عصر من العصور، وهذه المسألة (وسائل الدعوة توقيفية أو اجتهادية كتشكيل الأحزاب والجمعيات والمشاركة في البرلمانات والحكومات) مبحوثة بين أهل العلم المعاصرين، وقد انقسموا بشأنها إلى فريقين، فريق يرى أنّها اجتهادية، وفريق آخر يرى أنّها توقيفية، وأصحاب الرأي الثاني رأوا ذلك من باب عدم الابتداع في الدين، والحرص على الاتباع، وإعمالا للنصوص الواردة في الحث على الابتعاد عن البدع والحوادث، لكن العلماء الذين اعتبروا أنّ وسائل الدعوة وطرقها اجتهادية، سلكوا مسلكا آخر، لعل ما نقله ابن القيم عن الفقيه أبي الوفاء ابن عقيل يعبّر عنه بوضوح ويفصّل القول فيه بجلاء.
يقول ابن عقيل: «جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنّه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال شافعي: لا سياسة إلاّ ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل:السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: «إلاّ ما وافق الشرع»، أيّ لم يخالف ما نطق به الشرع: فصحيح، وإن أردت: لا سياسة إلاّ ما نطق به الشرع: فغلط، وتغليط للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن».
فابن عقيل كما يرى القارئ، يحكم ابتداء على السياسة بأنّها ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي، أيّ وإن كان حادثا بعد عهده عليه الصلاة والسلام، أيّ لم يكن معروفا في زمانه، فما دام أنّه يحقق مصالح العباد ويكون فيه صلاحهم، والتخفيف من الفساد في أوساطهم ومجتمعاتهم، فهو من السياسة الشرعية الجائزة والقويمة.
ثم انظر إليه كيف ينص على أنّ المعيار عنده ليس فيما نطق به الشرع حتى يكون شرعيا، بل المعيار في شرعيته مع كونه حادثا، أن لا يخالف ما نطق به الشرع، أما إن أراد القائل، كحال ذاك الفقيه الشافعي، لا سياسة إلاّ ما نطق به الشرع، فيرد عليه ابن عقيل بقوله الحاسم والجازم بأنّه غلط وتغليط للصحابة لأنّه جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن، يريد بذلك ما وقع بين الصحابة من أفعال واجتهادات لم ينطق بها الشارع ولم ينص عليها، لكنهم اجتهدوا فيها لأنّهم لم يجدوها تخالف الشرع من جهة، وتحقق مصالح العباد من جهة أخرى.
فممارسة الإسلاميين للسياسة تتحدد موافقتها للشرع، بأن لا تخالف ما قرره ونص عليه، وفي الوقت نفسه، تجتهد في التماس كل السبل والطرق والوسائل التي يكون معها الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، والأخذ بكل المستجدات المعاصرة، وإن لم ينطق بها الشارع، تحقيقا لمصالح العباد ومقاصد الشريعة.