منذ عهد بابل (باب إيل) والعرفان الأسراري مع سحر إدراك الغيب و غيب الغيب، أو على حد تعبير إبن عربي: "الغيب الأطلس في العين الأقدس" يجذب الروحانيين و ينجذب إليه عامَة المتنوِرين. إنَ هذا الإنجذاب السَاحر هو في الهوية واحد بالرغم من الإختلاف على حد تعبير أصحاب الوحدة المطلقة: "الهويَة في الإختلاف"، ما يعني أنَنا واحد وإن كنَا مختلفين. و إلى ذلك كان الإنجذاب العرفاني عابرا للدِيانات و المذاهب و الطَوائف و الإيديولوجيَات. إنه عهد قديم بابلي مفعم بالميثولوجية ثم كنعاني ثم كتابي ثم غنوصي، تتداخل فيه الكتابة و الرمز و يتزاحم عنده المعنى واللفظ من لدن عهد "ألست" على حد التعبير القرآني إلى أن يعود الطَور و يتكرَر الدَور. أمَا لماذا العرفان، فلأن التجربة العرفانية هي على المستوى الشخصي محاولة لعروج الرُوح من ظاهر الجسد إلى باطن الهوية، فهو عروج من الظاهر إلى الباطن، عروج منك إليك، و رجوع بك إليك. إنَ بداءة هذه التجربة العرفانية التي تحدث على المستوى الشخصي و التي تستعاد من خلال الرِياضات الروحانية إنَما تتم عن طريق القراءات الأسراريَة ثم الإنتقال إلى مستوى التَأمُلات العرفانية و تنتهي بنشوة الإستغراق في الوحدة المطلقة. و معلوم أنَ القراءات يمكن أن تتَخذ طابع التَدارس الجماعي للنُصوص الأسراريَة بينما التأمُلات تتَخذ شكل التَوحُد الفردي من خلال التَركيز على الوعي الرُوحي للإنتقال من حالة مستوى الوعي الفردي إلى مستوى الوعي الجمعي فالوعي الكوني انتهاء بوعي المطلق.
إنَ الإشادة بالعرفان التأمُلي و الإستغراق الرُوحي، و على نحو خاص الإشراق الغنوصي في التَصوُف الإسلامي الذي يمثِله روحانيُون كثيرون في القديم و الحديث من أمثال الصُوفي الكبير حمدون القصَار و أبي سعيد إبن أبي الخير و إبن مسرَة الأندلسي و إبن برَجان و إبن قسي إلى الحلاَج و أحمد الغزالي و عين القضاة الهمداني و إبن سبعين والششتري و الشَبستري و النَسيمي و عفيف الدِين التِلمساني و شاه سرمد الشهيد و الهادي السُويدي و إبن قاضي سماونة و آخرين ممَن طوتهم الذَاكرة الصُوفية مع كونهم من كبار العرفانيِين و ممَن تحقَقُوا تجربة العبور خارج الجسد بل و خارج الدِيانات التَاريخيَة المحدِدة للهويَات القاتلة حين تتحوَل التجربة من سذاجة الظَاهرة الدِينيَة إلى تعقيدات الظَواهر الإيديولوجيَة. و لا يخفى أنَ التَجربة العرفانيَة لكلٍ من حضرة دارا شكوه و إبن هود و معشوقي هي من التَجارب العرفانيَة التي يجب أن يستفاد منها في رحلة العبور من التَقييد إلى الإطلاق و من المعبود الشَخصي إلى المطلق المتجاوز لكلِ نسبة أو إضافة، متَخذة شعار إبن سبعين: "النِسب والإضافات كذب و خرافات".