تركيا: الحركات الصوفية، حماية الدين ومواجهة العلمانية

المعرفة - ملفات خاصة -حماية الدين ومواجهة العلمانية

 

محمد باتوك

الناظر إلى طبيعة التدين في المجتمعات التركية يمكنه بسهولة أن يرى آثار التصوف الواضحة فيه، ولعل تفسير هذا يبدو سهلا إذا ما تذكرنا فضل الطرق الصوفية في دعوة الشعوب التركية المختلفة من أوزبك وأذريين وكرغز وغيرهم ممن دخل الدين من باب التصوف.

ولذلك دأب الأتراك منذ حديث عهدهم بالدين على حماية التصوف الذي كان بمثابة الحصن المنيع الذي يحتمي به الدين والبلاد معا من شتى الهجمات وسائر المخاطر وأولها العلمانية، إلى جانب المساهمة في دفع بعض من مريدي هذه الطرق ليكونوا من بين ابرز الوجوه السياسية في تركيا الحديثة.


الطرق الصوفية
التصوف والسياسة

التصوف والدولة

استقبل الشعب التركي الدول الغربية التي حاولت أن تحتل أرضه في بدايات القرن العشرين بمقاومة شعبية لم تخطر على بال الغزاة. وقد كان في طليعة القائمين على تلك المقاومة مصطفى كمال باشا (أتاتورك).

وقد حظي هذا الأخير في حرب التحرير بدعم كبير من كافة أطياف الشعب التركي خاصة من أهالي الطرق الصوفية المختلفة، الأمر الذي جعل للمريدين والشيوخ الصوفيين مقاعد في أول مجلس للنواب التركي في أنقرة عام 1920 ليصيروا بذلك نوابا في المجلس أو "مبعوثين" على حد التعبير آنذاك.

"
شارك أتباع الطرق الصوفية في حرب التحرير مع اتاتورك الذي انتخب منهم مساعدين قبل أن ينقلب عليهم ويتخذ الاجراءات الرامية الى القضاء على التدين وأهله
"
انتخب مصطفى كمال ليكون رئيسا لهذا المجلس الوليد كما انتخب إلى جانبه مساعدان من شيوخ الطرق الصوفية أحدهما شيخ التكيّة الواقعة في قونيا (وهو من الطريقة المولوية) ويدعى عبدالحليم أفندي، والآخر كان شيخ تكيّة بكتاشية  في مدينة كرشهير ويدعى جمال الدين أفندي. بالإضافة إلى كثير من الشيوخ والصوفيين الذين كانوا في ذلك المجلس الأول.

قدم الصوفيون الدعم لمصطفى كمال في كل من حرب التحرير وتشكيل مجلس النواب الأول، إلا أن أتاتورك سرعان ما ألغى هذا الأخير ليشكل مجلس النواب الثاني سنة 1923 ولتتبع تشكيل هذا المجلس مجموعة من التغييرات الجذرية كإعلان إلغاء الخلافة واستبدال الحروف اللاتينية من الحروف العربية في الكتابة وقيام المنحازين إلى الغرب بممارسة فعالياتهم الرامية إلى القضاء على التدين وأهله، وكل هذا ولا شك كان سببا في حنق المتدينين وإثارة حفيظتهم.

تطورت الأحداث وأغلق الحزب المعارض عام 1925 تذرعا بثورة الشيخ سعيد بيران التي جرت خلال ذلك العام في محافظات الشرق والجنوب الشرقي، وبعد ذلك أغلقت التكايا في نفس السنة بل وتم منع الطرق الصوفية من ممارسة فعالياتها. ولم يقتصر هذا الحظر على التكايا آنذاك فقد شمل المدارس الدينية ليحظى التعليم "المتغرب" بالاهتمام الأكبر على حساب التعليم الديني. ولكن مع كل هذا التضييق وتلك التحديات تابعت الطرق الصوفية ممارسة فعالياتها في الخفاء وفي حجرات الصمود التي أعدّتها لذلك تحت الأرض.

حافظت الطرق الصوفية على وجودها وممارسة فعالياتها بعد منع تكاياها وإغلاق مدارسها، ولقد وقف التصوف أمام مجموعة من الجهات التي ناصبته العداء يذود عن حوضه ويذب عن حماه، و كان من أبرز أعدائه أولئك القائمون على الصحافة والإعلام آنذاك، وهم الذين ما فتئوا يستفزون الحكومة بشكل مستمر لمحاربة الطرق الصوفية وأهلها.

وقفت أوتاد التصوف ثابتة أمام عواصف التغريب العاتية حتى تحمي خيمة الدين من أن تولي أدراج الرياح، وقد كان ضمن تلك العواصف ما جرى سنة 1930 حيث قامت الدولة بإعدام مجموعة من أهل التصوف وحبس مجموعة أخرى على أثر قيام مجموعة من الأشخاص (ويقال إنهم كانوا من متعاطي المخدرات لا يمتون إلى التصوف بصلة) بقتل عسكري في قضاء مانامان التابع لمحافظة إزمير الأمر الذي اتخذته الدولة ذريعة لمحاولة نقض غزل التصوف المحكم.

انقشعت غمامة التضييق جزئيا لتشع شمس الحرية من جديد بعد فوز الحزب الديمقراطي في انتخابات العام 1950، إلا أن الانقلاب الذي قام به الجيش في 27 مايو/ أيار سنة 1960 عاد ليكدر صفو الأجواء ويزج الحريات من جديد في سجن الظلم والتضييق.

لقد كان العلمانيون يعملون على محاربة التعليم والإعلام الدينيين ويحاولون التضييق على النشاطات والفعاليات الصوفية مع أنهم لم يكونوا يمثلون من أفراد المجتمع إلا النزر اليسير ولكنّهم تمكنوا من إحكام القبضة على مقاليد الحكم وزمام السلطة آنذاك. أما القسم الأكبر من الشعب فقد كان غير راض ٍعن تلك العلمانية متمسكا بدينه ولكنه كان في الوقت نفسه خائفا يترقب، يمارس تدينه وراء الكواليس أو في عتمة الدهاليز.

الطرق الصوفية

تمكنت كثير من الطرق الصوفية في تركيا أن تحافظ على وجودها رغم كل العقبات التي مرت بها، ولعل من أبرز تلك الطرق الطريقة النقشبندية والقادرية والخلوتية والعُشّاقية والجراحية والبكتاشية والمولوية، وتشارك هذه الطرق في الحياة الاجتماعية ولبعضها علاقات ودور سياسي، ومن أهم هذه الطرق النقشبندية والقادرية.

"
هناك العديد من الطرق الصوفية في تركيا من أبرزها النقشبندية والقادرية وقد كان لبعضها أدوار سياسية مهمة
"
تعد الطريقة النقشبندية أكبر الطرق الصوفية في تركيا من حيث عدد المنتسبين إليها، وينتسب معظم أهلها إلى الفرع المعروف بـ"النقشبندية الخالدية" التي أخذت اسمها من خالد البغدادي الذي توفي في القرن الـ19، ومن أبرز الجماعات المندرجة ضمن هذه الطريقة من يحسب لها أدوار اجتماعية وثقافية و سياسية فاعلة:

1- جماعة إسكندر باشا: التي كان لشيخها محمد زاهد كوتكو الذي توفي في العام 1980 دور مهم في تأسيس حركة الإسلام السياسي وفي مواجهة النفوذ العلماني في تركيا.

2- جماعة أرانكوي: ولم يكن لهذه الجماعة حزب سياسي يمثلها حيث آثرت العمل السياسي غير المباشر من خلال التوجيه والتأثير والوعظ الديني بسبب أحداث مانمان عام 1930 التي سامت بها الدولة المتصوفين سوء العذاب الأمر الذي جعل هذه الجماعة تمارس نشاطاتها باحتياط وحذر.

3- جماعة المنزل: نسبة إلى قرية المنزل التي كان يمارس فيها شيخ الجماعة النقشبندي محمد راشد أرول فعالياته الموجهة في جلها إلى محاربة العادات السيئة من الخمر والقمار وسوى ذلك، وقد حققت الجماعة نجاحا كبيرا في ذلك ما استقطب الزوار من داخل البلاد وخارجها الأمر الذي لم يرق للعلمانيين الذين انتهزوا فرصة انقلاب عام 1980 ليشدوا الخناق على تحركات شيخ الجماعة ونفيه، رغم حرصه على عدم التعاطي بالسياسة.

4- جماعة إسماعيل أغا: وتعود التسمية إلى مسجد إسماعيل أغا في إسطنبول الذي يؤمه شيخ الجماعة محمود أفندي، ويطلب من الراغبين في الانتساب إلى الجماعة أن يرتدوا العمائم والجبب والسراويل ومن الراغبات أن يلبسن العباءات، الأمر الذي يجعلهم في خندق صعب من خنادق المواجهة مع تيار التغريب خاصة مع صحافته التي تصوره على أنه مروق صارخ من مبادئ العلمانية

5- السليمانيون: نسبة إلى شيخهم النقشبندي سليمان حلمي أفندي، وقد كانت أبرز فعالياته تعليم القرآن الكريم في أكثر الأوقات ضيقا على الحركات الدينية، وقد مارس ذلك في الخفاء وطور لتعليم القرآن وتحفيظه طرقا تنشئ القراء والحفاظ في وقت زمني قصير.

أما الطريقة المهمة الثانية فهي الطريقة القادرية التي تأسست على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني، وللطريقة القادرية عدة جماعات متفرعة منها في تركيا، فهناك الجماعة التي كان يرأسها مصطفى خيري أوغوت أفندي وآلت إلى مريده حيدر باش بعد وفاته سنة 1979. أخذت الجماعة تصدر مجلتين شهريتين ولها قناة تلفزيونية باسم "مالتَم" كما أن لها حزبا سياسيا يرأسه حيدر باشا بنفسه ليكون أوضح مثال على العلاقة المباشرة بين السياسة والتصوف.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن هناك طرقا منحرفة كالباكتاشية والعلوية اللتين ما فتئتا تدعمان الأحزاب اليسارية المؤيدة للعلمانية وكأنهما تحاولان الانتقام من الاتجاه السني.

التصوف والسياسة

ربما كانت الجماعة النقشبندية المعروفة بجماعة إسكندر باشا هي الأكثر تأثيرا في المشهد السياسي التركي بشكل مباشر، حيث كان الشيخ كوتكو يشجع مريديه على العمل في مراكز التأثير في الدولة خاصة فيما يعرف بـ"منظمة الدولة للتخطيط"، حتى نجح في نهايات الستينيات من القرن الماضي في مساعيه هذه بتواجد طلابه في مختلف المستويات الوظيفية في تلك المنظمة.

"
خرج من بين الطرق الصوفية السياسي التركي نجم الدين أربكان الذي شجعه شيخ جماعته على تأسيس حزبه ودعمه بأعضاء من الطريقة النقشبندية
"
ولم يكتف الشيخ كوتكو بخلق مواضع نفوذ في الدولة لمريديه من المتصوفة، لكن طموحه امتد إلى تأسيس تيار إسلامي سياسي من خلال تشجيعه لأحد مريديه النجباء وهو نجم الدين أربكان على تأسيس حزب سياسي فقام الأخير عام 1970 بتشكيل حزب النظام الوطني الذي أخذت أسماؤه تتجدد بتجدد التحديات حيث صار حزب السلامة الوطنية ثم حزب الرفاه ثم حزب السعادة أخيرا. وقد كان معظم من شجع على تأسيس حزب النظام ثم السلامة الوطنية ومعظم أعضائه فيما بعد هم من أولئك المنسوبين إلى الطريقة النقشبندية.

توفي الشيخ كوتكو سنة 1980 ليخلفه صهره ومريده محمود أسعد جوشان الذيأخذ يمارس نشاطاته تحت مظلة "وقف طريق الحق" الذي كان أسسه بأمر من شيخه كوتكو، وأخذ يفتتح الفروع لهذا الوقف في أماكن مختلفة وعمل على تفعيل نشاطاته التعليمية والتعاونية بما تسنح له الظروف وتوفره الإمكانات.

وخلال السنوات اللاحقة اتسعت الفجوة بين كل  نجم الدين أربكان ومحمود أسعد جوشان، حتى آل الخلاف إلى انفصال كامل سنة 1990 بين الحزب والطريقة. أثرت هذه الأحداث على الطريقة وفاعليتها خصوصا بعدما اختار كثير من المريدين الحزب على الطريقة لدى مفترق الطرق، وفي سنة 2001 وافت المنية شيخ الطريقة جوشان في حادث سير في أستراليا ليخلفه نجله نور الدين جوشان ولتفقد الطريقة بموته قدرا كبيرا من تأثيرها التصوفي والاجتماعي.

ولم يكن للجماعات الصوفية الأخرى نفس الدور السياسي المباشر إلا أن مواصلتها نشاطات الوعظ الديني والتأليف في مجالات التفسير والسيرة أدام الصلة بين هذه الجماعات ومحيطها الاجتماعي وزاد في أعداد مريديها كما هو حال جماعة أرانكوي وشيخها سامي أفندي وخلفه الشيخ موسى توب باشا الذي كان يخالف العمل الحزبي ويرجح العمل في تربية الأمة وتأهيلها.

وحتى في حالة جماعة المنزل التي اهتمت بمحاربة العادات السيئة في المجتمع كان مجرد استقطابها للناس وتأثيرها فيهم إنجازا له أثر سياسي حيث كانت تجربة الشيخ رشيد مع العلمانيين تؤكد دور الطرق الصوفية في المجتمع وكونها لا تقتصر على الزوايا والحضرات كما قد يتبادر لأذهان البعض فقد كانت الطرق الصوفية الشوكة العنيدة في حلق أعداء الدين بسبب نشاطاتها المنظمة وفعالياتها المؤثرة على مختلف الصعد.

وربما كانت جماعة السليمانيين أقرب إلى المشاركة الفعلية في العمل السياسي حيث انتخب شيخها كمال كاتشار من قبل حزب العدالة الذي أسسه سليمان ديميريل ليكون نائبا في مجلس النواب لدورات ثلاث. كما كان كمال كاتشار أحد أعضاء الهيئة التركية البرلمانية لدى المجلس الأوروبي، وفي الإجمال يبدو أثر الطرق الصوفية واضحا على الأحزاب الدينية واليمينية، حيث كان زعماء هذه الأحزاب يزورون شيوخ الطرق قبل كل انتخابات ليضمنوا تصويت المنتسبين، الأمر الذي لم يرق للعلمانيين ما دفعهم إلى العمل جاهدين على حسر أثر الطرق الصوفية في المجتمع.

ويمتد أثر الطرق الصوفية حتى إلى غير المنتسبين لها من السياسيين ومنهم رئيس الجمهورية الأسبق تورغت أوزال الذي كان متعاطفا مع النقشبندية وقد كان كل من أخيه وأمه مريدا لدى الشيخ النقشبندي محمد زاهد كوتكو، ولا يمكن الجزم بكونه مريدا لدى الشيخ أم لا، إلا أنه من المعلوم أنه كان على اتصال مع الطريقة ويميل إليها بشكل واضح ما دفعه إلى التسامح وتوسيع الفضاءات أمام النشاطات الدينية والصوفية تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الشخصية.

تعرض التيار الديني لحملات مختلفة من الحصار وأغلقت الأحزاب المتتالية التي ورثت حزب النظام الوطني وصولا إلى إجبار الجيش لأربكان على الاستقالة من رئاسة الحكومة عام 1997، وقد توالت السنوات العجاف حتى حظي حزب العدالة والتنمية بحوالي ثلث أصوات الناخبين في تركيا في انتخابات عام 2002، ليشكل بذلك القوة الكبرى في مجلس النواب التركي ويشكل الحكومة منفردا.

تأسس حزب العدالة والتنمية على يد رجب طيب أردوغان الذي انتهج منهجا مخالفا لحزب أربكان (بأسمائه المتجددة) الذي كان يضم أردوغان في صفوفه.

لم يحاول أردوغان أن ينتفع من العاطفة الدينية في الانتخابات كما كان يفعل أربكان، فلم يزعم أن الانتخابات هي عملية إحصاء لأعداد المسلمين في تركيا ولم يستعمل أيا من تلك التشبيهات والعبارات التي تقحم الدين في خدمة المصالح السياسية بشكل سافر، ما جعل أردوغان قادرا على مخاطبة الإسلاميين وغيرهم في آن معا وكسب أصواتهم لصالحه بالإضافة إلى عدم تحميل الإسلاميين أو التيار الديني تبعات تجربته الجديدة في حال أخفقت.

وقد تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم، وقد كان الموضوع الحي في الساحة التركية هو موضوع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ومواضيع أخرى متعلقة بحقوق الإنسان، وفتح هذا المناخ فضاءات رحبة نسبيا أمام التيار الديني الصوفي، حيث إن بروز التدين بصورته المحلية الصوفية كان أولى لدى الاتحاد الأوروبي وكل من يسعى إلى الانضمام إليه من بروز صورة تدين مستوردة من باكستان أو السعودية أو سواها مما لا يمكن للاتحاد الأوروبي استيعابه بحال.
_______________
عضو اللجنة التنفيذية لحزب السعادة