عن الجنس والعفة: هامش على ألف ليلة وليلة

عن الجنس والعفة: هامش على ألف ليلة وليلة

by Ahmed Zaki Osman, August 30th 2011


قبل سنوات،  كان المرء ينتظر الأيام الأخيرة من رمضان حتى يتعرف على الطريقة  التي ستحل بها عقدة مسلسل “ألف ليلة وليلة”. كنا نعرف باليقين أن الخير سينصر وأن الشر لا يمكن له إلا أن يندحر.

ارتبط رمضان بـ “ألف ليلة وليلة”، وكان وجه شيريهان البهي طاقة من طاقات النور التي يشعها الشهر الكريم.

كنا نتلهف على سماع صوت زوزو نبيل وهي تبدأ الحلقة بجمل مسجوعة، لها وقع السحر على الأذن. في الحلقة الأولى من ألف ليلة وليلة (وردشان وماندو) أبلغتنا زوز نبيل أنها ستقص علينا “قصة لو كتبت بالإبر على أماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر”. (وردت هذه الجملة في حكاية الحمال مع البنات بهذا الشكل “ولهذا الأمر حكاية لو كتبت بالإبر على أماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر”).

مظاهر احتفال الشهر الكريم تغيرت. واختفى وقع ألف ليلة وليلة، ذلك لأنها لم تجد عقلا أتاه الله خصوبة في الخيال كي يكتب عملا دراميا يستوحي بعضا من قصصها الأسطورية.

حين كبرنا وعرفنا الطريق إلى المجلدات. شممنا رائحة التاريخ الغامض والساحر بين صفحات ألف ليلة وليلة. وحين أتيح للمرء قراءتها بالإنجليزية كانت التجربة المرة. غاب الخيال وحل مكانه لغة وصياغات ميتة لا روح فيها. ومن ثم كانت العودة المحمودة للنص العربي.

لا أذكر اسم الناقد الذي كتب بالإنجليزية مرة عن ألف ليلة وليلة قائلا إنها تلك القصص التى خلبت لب شهريار لمدة 1001 ليلة، لكنها وفي الوقت نفسه خلبت معها لب العالم لقرابة ألف عام. ذلك النص السردي الذي خلب لب العالم كان بمثابة حرب  خاضتها شهرزاد لتدافع عن جنسها. وبدأت الحرب بخدعة السرد الشفهي،  الحرب خدعة في نهاية المطاف. اغتوى الملك بالقص. وجلس منصتا للمرأة التي تزوجها في نفس اليوم وهي تقول:

حكي والله أعلم أنه كان فيما مضى من قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك من ملوك ساسان بجزائر الهند والصين صاحب جند وأعوان وخدم وحشم له ولدان أحدهما كبير والآخر صغير وكانا بطلين وكان الكبير أفرس من الصغير وقد ملك البلاد وحكم بالعدل بين العباد وأحبه أهل بلاده ومملكته وكان اسمه الملك شهريار وكان أخوه الصغير اسمه الملك شاه زمان وكان ملك سمرقند العجم

 كانت هذه هي السطور الأولى لجملة ملاحم ألف ليلة وليلة. السطور بدأت بقصة مركزية. اكتشف شهريار خيانة زوجته فقتلها. وطالت الخيانة  أخيه شاه زمان ومن ثم وجب قتل زوجته هو الآخر.

ضحكت مرارا من تعسف احدي النسويات في قراءة مدلول هذه القصة حيث رأت أنها دليل على “مقاومة” النساء للبطش “الذكوري” المتمثل في شهريار. (بعض النسويات الجادات هجرن هذه اليفط وقدمن تفسيرات أخرى بدت أكثر رحابة وفهما لألف ليلة وليلة).

ما علينا من هذا التعسف لكن على أيه حال لا نعرف على وجه التحديد نوع الشيطان الذي زين لشهريار أن فعل الخيانة عمل متأصل في النساء. وعليه فإن قتل كل النساء واجب حتمي لابد منه. وفي قتله للنساء، استلهم شهريار بدون بعض الطقوس. يتزوج  شهريار من فتاة ثم يقتلها مع بزوغ الفجر.

ظل هذا دأب شهريار حتى تزوج من شهرزاد ابن وزيره التي لجأت لحيلة صغيرة وهى أن تروى له كل ليلة قصة ناقصة  كي تحمله على استبقائها حتى الليلة التالية.

وهكذا مضت شهرزاد في الحكي وكانت النتيجة أنها تمكنت-ربما- من إنقاذ الجنس البشرى  من الفناء.

+++

يقف الجميع حيارى أمام هذا المزيج الثقافي الغريب والثري الذي أنتج ألف ليلة وليلة.

(الف ليلة وليلة) ياسادة كتاب شعبي تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته، وتراءت من خلاله ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه اساليبه ولهجاته، فهو كالشعب وكل شيء للشعب، قد لقي من جفوة الخاصة وترفع العلية أذي طويلاً، أغفله الأدب فلم يتحدث عنه، واحتقره الأدباء فلم يبحثوا فيه.

هكذا أخبرنا العلامة أحمد حسن الزيات في محاضرة مجهولة نشرتها أخبار الأدب مؤخرا. والآن  ولسنوات طويلة خلت، لم يعد الأدباء والنقاد ينظرون  باحتقار أمام ألف ليلة وليلة، فقد باتت نصا مؤسسا في الغرب والشرق. وخرجت الكتب والأبحاث- بلغات شتى- تتحدث وتفصل وتحلل الليالي. لكن هذا الاهتمام لم يمنع من التضارب الشديد في أصول ألف ليلة وليلة.

البعض يرى أن نص ألف ليلة في ألف ليلة يضرب بجذوره في أعماق الثقافة الهندية (على غرار كليلة ودمنة لابن المقفع)، ووصلت إلينا نحن العرب بعد ترجمتها عن وسيط هو اللغة الفارسية.

لكن الوسيط الفارسي لم يكن مجرد وسيط عادي، فقد  أسهم بدوره في الليالي. انظر مثلا إلى الأسماء مثل شهريار(يعنى بالفارسية ملك السادة أو الملك العظيم)  وشهرزاد (يعني بالفارسية سيدة المدينة أو المرآة المتحضرة).

آخرون لا يرون في “فارس” وسيط، بل هو المنتج الفعلي لليالي.

فى “مروج الذهب” للمسعودى (عام 947)إشارة إلى عنوان الكتاب باللغة الفارسية “ألف خرافة” (أو هزار أفسان)، وفى “الفهرست” لابن النديم (عام 987 ) وصف لمجموعة من القصص الفارسية التي تحمل نفس الاسم.

يكتب ابن النديم في فصل “ في أخبار العلماء وأسماء ما صنفوه من الكتب وهي ثلاثة فنون: الفن الأول: في أخبار المسامرين والمخرفين وأسماء الكتب المصنفة في الأسمار”:

فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب هزار أفسان ومعناه ألف خرافة وكان السبب في ذلك أن ملكاً من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال لها شهرزاد فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى أن أبى عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يطأها إلى أن رزقت منه ولدا أظهرته وأوقفته على حيلتها عليه فاستعقلها ومال إليها واستبقاها

ويضيف

والصحيح أن شاء الله أن أول من سمر بالليل الإسكندر وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه لا يريد بذلك اللذة وإنما كان يريد الحفظ والحرس واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب هزار أفسان ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سمر لأن السمر ربما حدث به في عدة ليال وقد رأيته بتمامه دفعات وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث.

وصف النديم الأخير من أن هذه القصص هي ” غث بارد” أثارت العلامة أحمد حسن الزيات الذي كتب 

ورآه (محمد بن اسحق المعروف بانن النديم) فقال انه غث بارد، لانه نظر اليه نظرة الي الأدب الارستقرارطي الذي يصور ترف الخيال وجمال الصناعة. فلما حقق العصر الحديث تغلب الديمقراطية وسيادة الشعوب، واستتبع ذلك عناية أصحاب المذهب الإبداعي (الرومانتيكيين) في الغرب بحياة السوقة والدهماء عنايتهم بحياة الملوك والنبلاء وهب رواد الاستعمار وعشاق الآثار ينقبون عن »فولكلورد« الشرق أخذ أدباؤنا بحكم التقليد والعدوي- يعطفون علي أدب السواد، فدونوا اللغة العامية وجمعوا الأغاني الشعبية

لكن غلبة الأسماء العربية على شخوص الليالي توحي بأن العرب (والمصريين) قد شاركوا في عملية السرد. وعلى أيه حال يعود مؤرخو الأدب إلى القرن 14 بوصفه التاريخ الذي حصلنا من خلاله على أقدم مخطوطة لألف ليلة وليلة (لكن هذه النسخة غير موجودة).

وحسب الموسوعة البريطانية (التي تفرد منذ عقود مدخلا مطولا لليالي)، فإنه وبحلول منتصف القرن العشرين كانت هناك 6 نسخ من ألف ليلة وليلة، اثنتان منهم ترجعان  إلى القرن الثامن وهما ترجمة عربية لـ “هازار أفسان” بمسمى ألف خرافة وألف ليلة، وهناك نسخة تنتمى إلى القرن التاسع تعتمد على النسخة السابقة ولكن تحوى عددا أكبر من الحكايات، ثم نسخة ترجع للقرن العاشر.

فى نسخة القرن الـ 12 دخلت القصص المصرية في ألف ليلة وليلة، أما النسخة السادسة التى ترجع إلى القرن الـ 16 وفقد أدخلت عليها مجموعة جديدة من القصص، فضلا عن إشارات إلى الحملات الصليبية.

هذه النسخ لا تجيب عن طبيعة أصل الليالي، لكن ما اهمية ذلك؟ ربما سيتخذ الحديث حول أصل الليالي طابع المواجهة القومية (فارسية- عربية). وهنا لا يسع المرء سوى أن يردد مقولات سبقه إليها نقاد كبار من أن اتساع الرقعة الجغرافية التي تدور فيها أحداث الليالي (ما بين وسط آسيا والهند وإيران والعراق ومصر وتركيا)، يشير إلى استحالة أن يكون مؤلفها شخص واحد أو بيئة واحدة.

+++

لطالما كانت الليالي هدفا لسهام من يرون فيها نصا جنسيا صريحا. ومن هنا كانت دعوة البعض المتكررة إلى وقف طبع الليالي. فهي-في زعمهم-نص ضد الأخلاق ويروج للخلاع والمجون.

عبر صفحات الليالي حديث مفصل عن العلاقات الجنسية وأسماء للأعضاء الجنسية للإناث (حكاية الحمال مع البنات) فضلا عن إشارات للعلاقات المثلية (حكاية قمر الزمان مع معشوقته).

لكن من ينقد الليالي على جرأتها في تصوير العلاقات الجنسية عليه أن ينتظر قليلا ويتمعن في  قيم الإيمان  والعفة والإخلاص الراسخة في الليالي بشكل أكبر وأوضح من رسوخ الجنس.

في قصة الليلة الثانية (التاجر والعفريت)، نقرأ جملا تعلي من شأن حوداث وقوع النساء في نفوس الرجال وقعا حسنا (والعكس)

لما سمعت كلامها حن قلبي إليها لأمر يريده الله عز وجل

واعلم أني جنية رأيتك فحبك قلبي وأنا مؤمنة بالله ورسوله

ونرى أمثلة للإيمان بالقضاء والقدر

يا أخي قدر الله عز وجل علي بهذا ولم يبق لهذا الكلام فائدة

فحمدت الله عز وجل وفرحت غاية الفرح

أنا زوجتك التي حملتك ونجيتك من القتل بإذن الله تعالى

وهناك قيمة الإحسان والعفو عند المقدرة

قلت لها: بالله لا تفعلي فإن صاحب المثل يقول: يا محسناً لمن أساء كفي المسيء فعله وهم إخوتي على كل حال

وفي “حكاية الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس”

ثم قال: يا ولدي مالي عندك وصية إلا تقوى الله والنظر في العواقب وأن تستوصي بالجارية أنيس الجليس

لكن معنى العفة هذا يتحول بدوره إلى نقد لنساء جرمتهم الليالي بسبب شبقهن مثلما دار في “حكاية تتضمن داء غلبة الشهوة في النساء ودواءها” التي تقول:

ومما يحكى أيضاً أنه كان لبعض السلاطين ابنة وقد تعلق قلبها بحب عبد أسود فافتض بكارتها وأولعت بالنكاح فكانت لا تصبر عنه ساعة واحدة فكشفت أمرها إلى بعض القهرمانات فأخبرتها أنه لا شيء ينكح أكثر من القرد

وحين تزوجت هذه الابنه رجلا عجز عن تسريتها، شكا حاله إلى عجوز

التزمت لي بتدبير هذا الأمر وقالت لي: لا بد أن تأتيني بقدر وتملأه من الخل البكر وتأتيني بقدر رطل من العود فأتيت لها بما طلبته فوضعته في القدر ووضعت القدر على النار وغلته غلياناً قوياً ثم أمرتني بنكاح الصبية فنكتها إلى أن غشي عليها فحملتها العجوز وهي لا تشعر وألقت فرجها على فم القدر بعد أن صعد دخانه حتى دخل فرجها فنزل منه شيء تأملته فإذا هو دودتان إحداهما سوداء والأخرى صفراء، فقالت العجوز الأولى تربت من نكاح العبد والثانية من نكاح القرد فلما أفاقت من غشيتها استمرت معي مدة وهي لا تطلب النكاح وقد صرف الله عنها تلك الحالة وتعجبت من ذلك

المرأة الجميلة، والخبيثة، والغنية والفقيرة والشبقة، أمثلة على حضور النساء في الليالي، لكن تبقى أروعهن على الإطلاق “نزهة الزمان”  تلك المرأة التي لم تتحدث الليالي كثيرا عن جمالها وآثرت الحديث عن معارفها.

مثلت “نزهة الزمان” نموذج المرأة عميقة الثقافة متعددة المعارف والعلوم. فحين تعجب التاجر من فصاحتها وازدادت عنده محبتها قال: ما أظن إلا أن الرجال لعبوا بعقلك وباعوك بالمال فهل تحفظين القرآن؟

فأجابت

نعم وأعرف الحكمة والطب ومقدمة المعرفة وشرح فصول بقراط لجالينوس الحكيم وشرحه أيضاً وقرأت التذكرة، وشرحت البرهان وطالعت مفردات ابن البيطار وتكلمت على القانون لابن سينا وحللت الرموز ووضعت الأشكال وتحدثت في الهندسة وأتقنت حكمة الأبدان وقرأت كتب الشافعية وقرأت الحديث والنحو وناظرت العلماء وتكلمت في سائر العلوم وألفت في علم البيان والمنطق والحساب والجدل والعرف الروحاني والميقات وفهمت هذه العلوم كلها. ثم قالت: ائتني بدواة وقرطاس حتى أكتب كتاباً يسليك في الأسفار ويغنيك عن مجلدات الأسفار.

 فلم اسمع التاجر منها هذا الكلام صاح: بخ بخ فيا سعد من تكونين في قصره. ثم أتاها بدواة وقرطاس وقلم من نحاس، فلما أحضر التاجر ذلك بين يديها وقبل الأرض تعظيماً أخذت نزهة الزمان الدرج وتناولت القلم وكتبت في الدرج

++